“الطعن في الأحكام: مراجعة الضمير القضائي”


عمان بوست – بقلم المستشار د. مسعود محمد شلندي

ليس الطعن في الأحكام خروجًا على هيبة القضاء، ولا مساسًا بوقاره أو مكانته، بل هو أحدُ أهم تجليات الضمير القضائي حين يُعيد النظر في ذاته، ويتفحّص مسار العدالة بعيون أكثر اتساعًا وموضوعية. فالقاضي، مهما بلغ من علم وخبرة، يبقى بشرًا يجتهد، وقد يصيب وقد يخطئ، ومن صميم هذه الطبيعة الإنسانية انبثقت فكرة الطعن؛ لا لتهدم حكماً قائماً، بل لترسّخ معنى الإنصاف وتمنح الحقيقة فرصةً أخرى لتتجلّى كما ينبغي.
فالطعن هو الصوت الثاني للقانون بعد أن يفرغ قلم المحكمة من القول، وهو آخر ما تهمس به العدالة قبل أن تُغلق الستار على الفصل الأخير من الخصومة. وهو ليس امتيازًا للخصوم فحسب، بل هو حماية للعدالة ذاتها؛ لأنه يمكّنها من مراجعة خطواتها، وتصويب ما قد يقع من خطأ في تقديرٍ أو استدلال.
ومن هنا جاءت محكمة النقض بوصفها الضمير الأعلى للقضاء؛ ليست لتعيد الخصومة إلى مهدها الأول، بل لتُعيد إلى الحكم معناه، وتردّ إليه روحه التي قد تعصف بها رتابة الإجراءات أو غموض التسبيب. فهي لا تحاكم القاضي، بل تحاكم فكرة الحكم ومنطقه، وتزنه بميزان دقيق يجمع بين أحكام القانون ومقتضيات العقل.
وتستند فلسفة الطعن إلى إيمانٍ راسخ بأن العدالة لا تُختزل في لحظة النطق بالحكم، بل تتحقق عبر مسار كامل لا يكتمل إلا حين يطمئن الوجدان العام إلى سلامة الطريق وصواب النتيجة. فكان الطعن درعًا للعدالة إذا زلّت، وصوتًا لها إذا صمتت، وضمانةً لتصحيح مسارها الإجرائي كلما حاد عن غايته الموضوعية.
وهكذا، لا يُعد الطعن إنكارًا للحكم، بل إكرامًا له؛ لأنه يرفعه إلى مستوى الحقيقة التي لا يشوبها لبس، ويمنحه قوة النفاذ المستندة إلى ثقة كاملة في سلامة أسبابه. إنه صورة من صور النقاء القضائي، حيث يلتقي القانون بالفلسفة، ويستوي القاضي والمحكوم عليه تحت سقف الحقيقة التي لا تعرف مجاملةً ولا رهبة، بل تعرف الحق وحده طريقًا وغاية.
…… وسلام ……

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى