الخواجا يكتب : أنسنة العزاءات

عمان بوست – بقلم د. ماجد الخواجا

ليس بالجديد المشاركة في واجب العزاء حضورياً للدفن وفي بيت العزاء، فهي عادة نمارسها منذ أن تعلمنا آداب الحياة ومنها التعاطف ومؤازرة أهل المتوفى، في عام كوفيد- 19 وجدنا أنفسنا مطالبة بعدم التفاعل والتواصل مع أية أنشطة اجتماعية ومنها دفن الموتى وعدم فتح بيوت العزاء، والاكتفاء بالتعزية عبر مواقع التواصل، بل وصلت الحالة في ذروتها أن تم منع حضور الدفن لأقرب الناس للمتوفى نتيجة الإصابة بكورونا. فتغيّر لون وطعم الحزن والوجع والألم، تغيّرت العادات لصالح الاعتزال والابتعاد عن أية أنشطة تواصلية. وكم الذين ماتوا حينها وتم دفنهم دون حضور أحدٍ من أهاليهم.

وعندما انتهت الجائحة وعادت الناس لأشيائها واعتياداتها السابقة، كان ثمة ريبة وتوجّس لدى الكثيرين، فما زال منهم من يضع الكمامة عند تواجده في اجتماع بشري، وما زال هناك من يحمل في جيبه سائل التعقيم لليدين، ما زال من يرفض المصافحة والتقبيل والاحتضان. لأن الذاكرة ما زالت منشغلة ومشتعلة بذكريات أليمة لمن فقدناهم في الوباء بسبب تلك السلوكات.

لم يقتصر المنع على واجبات العزاء فقط، بل امتد إلى أية أنشطة اجتماعية وفي المقدمة منها الأعراس والمناسبات العائلية والوطنية والدينية، لقد تم التقييد لكل تلك الحياة الاجتماعية خشية انتشار وتفشّي الوباء.

كنت ومعي الزميل الصحفي نشأت الحلبي في عزاء، شاهدت الأعداد الهائلة للمعزّين، فقلت له: ألا ترى أننا نبالغ في مناسباتنا إلى حدٍّ غير معقول، أنظر للأفراح كيف تحوّلت إلى مهرجانات وكرنفالات وكأنها دعوة لحضور مناسبة عامة كبرى، أنظر كيف أصبحنا نقيم الحفلات والاحتفالات لأصغر شؤوننا. حتى واجب العزاء بات فرصةً لحضور حشود لا تنتهي.

أجاب الزميل الحلبي: دعني أخالفك الرأي في واجب العزاء، فمع عزلة البشر وانغلاق كل واحد منا داخل عالمة الإلكتروني ومواقع التواصل والاكتفاء برسائل عبر الإنترنت تتسم بالجفاف في المشاعر والبرود في الاستجابة وعدم الإحساس بالحميمية والإنسانية الحقيقية، لم يبق لنا غير مناسبات العزاء كي نشاهد بعضنا ونتحدث ونستمع ونضحك ونبكي ونتألم بعيداً عن الجفاف الإلكتروني، وقريباً من الدفءالإنساني والتعاطف الوجداني.

نعم يبدو أن حجم الازدحام النفسي والعزلة الاجتماعية، قد أصابت أرواحنا بشيءٍ من العطب الذي يصعب إصلاحه، يبدو أن الأولويات قد تغيّرت، في ظل هذا الاعتزال المزدحم بالعالم الافتراضي، تجيء واجبات العزاءات لتمنحنا فسحةً من العودة لأنسنة وقت مستقطع من حياتنا السيبرانية. نلتمس فيه شيئاً من وجدانيات غابت، ونتلمس بأيدينا وأعيننا وأسماعنا بعضنا بعضاً، ولا تستغرب حين تشاهدون أحدهم عندما يلتقيك أنه يمسح بنظره جسمك بالكامل وربما يركّز على تجاعيد أو ملامح بان عليها أحفوريات الزمن والحياة، إنه ببساطة يريد المقارنة بين الصورة التي تحملها ذاكرته عن الآخرين، وهل ما زالت كما هي أم طالتها خطى العمر والتعب. كما أيضاً لا تستغرب حين يحتضنك أحدهم ويطيل في الاحتضان، كأنه يبحث عن ذاته المغتربة وروحه المهترئة. ولا تستغرب حين ترى أحدهم يجلس منعزلاً عن الجميع ينظر إلى ساعته مستعجلاً الرحيل، فهو ربما أصبح في عالمه الخاص المليء بغربةٍ مقيمة في خبايا النفس. خرجت من بيت العزاء وأنا أتقصد النظر في عيون الجميع، كأنني شاهدت روحي تتكور وتندمج مع أرواحهم، نظرات تشي بحجم ما أصابنا من آثار الجائحة ومن نواتج السيبرانية الافتراضية التي باتت شكلنا الواقعي في قادم الأيام.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى