عثامنه يكتب : الكلاب الضالة.. من قضية بيئية إلى ورقة تحريض سياسي وإعلامي

عمان بوست – بقلم م. صفوان عثامنه
في كل مرة يعود فيها ملف الكلاب الضالة إلى واجهة النقاش العام، نشهد موجة من العاطفة، والتهويل، والتحريض، تتضخم معها المخاوف، وتُختزل الحلول في خيارين كارثيين: القنص أو الإيواء! هذا التناول العاطفي لقضية ذات خصوصية بيئية وثقافية لا يعبّر عن وعي جماعي ناضج، بل عن حالة من الفوضى الإعلامية، والاستثمار السياسي والاجتماعي الممنهج في إثارة الرأي العام، حتى وإن جاء ذلك على حساب المصلحة العامة، وأمن المجتمع وصحته، وسمعة الأردن ومؤسساته.
لقد تابعنا جميعًا كيف تحوّل تصريح علمي لمستشارة بيئية في وزارة الإدارة المحلية، الدكتورة أسماء الغزاوي، إلى مادة للتنمر والتشويه، لمجرد أنها وصفت الكلاب الضالة في الأردن بأنها تنتمي إلى سلالة كنعانية نادرة – وهو توصيف علمي موثّق – فانهالت عليها حملات التحريض والسخرية من منصات تُعرف أصلًا بخصومتها مع مؤسسات الدولة، وتحرص على تقديم الدولة إما كعاجزة أو مثارًا للسخرية!
الإعلام، في سعيه لرفع نسب المشاهدات والإعجابات ولو على حساب المهنية والموضوعية، يكرر الأخطاء ذاتها، باستضافته برامج حوارية دون مختصين وخبراء حقيقيين، ويختزل القضية في “حجم التهديد” بدلًا من تفكيك جذورها العميقة. وأهم هذه الجذور أن مجتمعاتنا – لأسباب دينية وثقافية وموروثات اجتماعية – ترفض ببساطة وجود الكلاب في الفضاء العام. لقد طُرح السؤال مرارًا: ما النسبة المقبولة لوجود الكلاب في الشوارع؟ ولم تأتِ أي إجابة. وكأن المطلوب هو “الإبادة التامة”، لا التنظيم ولا التعايش. فأين الرؤية البيئية؟ وأين البعد الديني والقانوني والأخلاقي في هذا الخطاب؟
الدليل العلمي موجود، لكنه يُقصى. دراسة علمية حديثة قمتُ بها أنا كاتب هذا المقال، وأحمل درجة الماجستير في علم الحيوان، ولدي أبحاث منشورة حول التحسين الوراثي للدواجن والأغنام لمواجهة تحديات التغير المناخي وزيادة الإنتاجية من اللحم والحليب لتحقيق الأمن الغذائي. وقد أُنجزت الدراسة لصالح مؤسسة “اليرموك” الأكاديمية المستقلة، ونُشرت مؤخرًا في مجلة علمية مرموقة ومحكّمة Applied Animal Welfare Science. حملت الدراسة عنوان “نحو تقييم موضوعي لمشكلة الكلاب الضالة في الأردن”، وأظهرت أن الأعداد الحقيقية للكلاب الضالة أقل بكثير مما يصوّره الإعلام، بل وأقل من المعدلات العالمية لأعداد الكلاب في الكيلومتر الطولي داخل المدن والأرياف.
تجربة البلديات السابقة أظهرت محدودية الإمكانيات. بعض البلديات وظّفت أفرادًا لهذا الملف، ثم تخلت عنه لاحقًا، ورفض بعضهم حتى أخذ اللقاحات اللازمة. فهل نكرر التجربة؟ وهل يُعقل أن تُحمّل بلديات مرهقة ماليًا عبء قضية بهذه الحساسية؟ إن الحل لا يجب أن يُلقى فقط على عاتق هذه الجهات، بل يجب إشراك منظمات مستقلة وفاعلة، تعمل على مستوى الأقاليم، وتتمتع بالكفاءة والاستقلالية، ويكون دورها تنسيقيًا وعلميًا، لا شعبويًا وموسميًا.
الإحصاءات الرسمية المنشورة من وزارتي الصحة والزراعة لا تبرر حالة الهلع الإعلامي. وعدد الإصابات بداء الكلب بين البشر محدود جدًا. بل إن بعض الفيديوهات المتداولة تبيّن لاحقًا أنها من خارج الأردن. وقد وثّق تقرير “مرصد أكيد” الإعلامي سابقًا تجاوزات صارخة في تغطية الملف: من معلومات غير دقيقة، إلى تضليل بصري، وصولًا إلى اعتماد مصادر غير موثوقة.
القضية ليست “كلابًا” فقط، بل مرآة لهويتنا الأخلاقية والحضارية. الأردن الذي نفخر به يجب أن يتعامل مع هذه الملفات بروح العلم لا بالغريزة، وأن يصوغ حلولًا تليق بتاريخه وصورته أمام العالم، لا أن ينجرّ خلف من يريد تسخيفه وتشويهه!