أقلام بوست

الخطيب يكتب : زيارة إلى دمشق… بين الألم والأمل..مشاهدات شخصية بعد غياب 38 عامًا عن الشام


عمان بوست – بقلم محمد جميل الخطيب

زرت دمشق ضمن وفد اقتصادي أردني، لكنها لم تكن بالنسبة لي مجرد زيارة عمل أو لقاءات رسمية، ما أكتبه هنا ليس بيانًا سياسيًا أو اقتصاديًا، بل هو انطباع شخصي وإنساني بحت، نابع من القلب، ومن مشاهداتي المباشرة خلال يومٍ واحد وليلتين في عاصمةٍ أحببناها منذ الطفولة.

زرت دمشق لأول مرة عام 1986، وها أنا أعود إليها بعد أكثر من 38 سنة… وعدت إنسانًا مختلفًا، أمام مشهدٍ يختلط فيه الألم بالأمل، والخراب بالصمود، والفقر بالكرامة.

شعب عاش تحت الظلم… لكنه لم ينكسر
منذ عقود، والشعب السوري يعيش تحت نظام شمولي صادر حقه في الحريّة والكرامة، لكن السنوات التي تلت عام 2011 كانت الأكثر قسوة، والأشد إيلامًا… حرب طاحنة دمّرت الإنسان والعمران، وخلّفت جروحًا في البيوت والقلوب لم تندمل بعد.

لم تكن المأساة لحظية، بل تراكمت عبر سنوات من الفساد والاستبداد والإهمال، بدأت بقبضة أمنية خانقة، وتفاقمت حتى صارت المدن رمادًا، والمصانع أطلالًا، والخدمات مجرد ذكرى.

بنية تحتية شبه متهالكة… لكن الإنسان أقوى
خلال جولتي القصيرة، رأيت واقعًا مريرًا لا يمكن إنكاره، شوارع بأرصفة مكسّرة، أحياء تعاني من نقص واضح في الخدمات، مبانٍ قديمة متروكة على حالها منذ أن سقطت القذائف الأولى، وأنقاض لم تُزل، وكهرباء تقطع لساعات طويلة، تكاد الحياة تتوقف خلالها.

نقل عام متواضع، شبكة طرق تحتاج إلى إعادة تأهيل شاملة، ومستشفيات ومدارس منهكة تحت الضغط وقلة الموارد.

ورغم ذلك… رأيت الناس تمضي، تبتسم، تكدّ، لا تشتكي كثيرًا بل تقول: “الحمد لله”.

الجامع الأموي… حيث يعود السلام إلى الأرواح
من أبرز اللحظات التي طبعت زيارتي إلى دمشق، كانت زيارتي للجامع الأموي، هذا الصرح العظيم الذي لا يشبه أي مكان آخر. دخلته بعد غيابٍ طويل، فشعرت وكأنني أتنفّس من جديد… رائحة البخور، ونقوش التاريخ، وهمسات الدعاء الصامتة، أعادت إليّ الطمأنينة التي افتقدتها طويلاً.

رغم الحرب والدمار، ظلّ الجامع الأموي شامخًا، كما لو أنه يختزن ذاكرة المدينة، ويحتضن آلامها وآمالها في آن. صليت فيه ركعتين، لا كزيارة عابرة، بل كوقوف أمام تاريخٍ ناطق، ومكانٍ شهد على قيام حضارات وسقوطها، لكنه بقي ينبض بالحياة.

الروحانية عادت إلى هذا المكان المقدّس بعد سنواتٍ من القهر والخوف، وكأنّ الأرواح التي كانت تُقمع، قد بدأت تجد طريقها للسلام. شعرت أن الجامع ليس فقط بيت عبادة، بل وطنٌ صغير، يجمع القلوب على الخير، والرجاء، والصبر.

أطفال بعمر الورد… وكرامة الكبار في زمن القسوة
مشهدٌ لن أنساه: طفل لم يتجاوز العاشرة يدفع عربة صغيرة، يبيع بعض الحلوى أو الخضار، وتحت شمس دمشق اللاهبة، بجواره رجل مسنّ يفترش الأرض يبيع أدوات بسيطة… لا تسوّل، لا تذمّر، بل عمل ومثابرة وأمل.

هذا هو الشعب السوري… لا ينتظر الشفقة، بل يُعيد بناء حياته بيديه، مهما كانت الظروف.

عبق الشام رغم الدمار… ودفء الناس رغم الفقر
مررت بأحياء دُمّرت أجزاء منها بشكل جزئي، وأخرى تبدو كما لو أنها خرجت لتوّها من حرب… لكن رغم الدمار، كان هناك شيء لا يمكن لمخلوق أن يمحوه: عبق الشام.

تفوح من زوايا دمشق رائحة التاريخ، وتنبض جدرانها بالحياة، وكأنها تقول: “أنا باقية”… في الأزقة، وفي المقاهي البسيطة، وفي صوت البائع الدمشقي الذي لا يزال ينادي على بضاعته بنفس اللحن القديم.

والناس؟ ودودون بشكل يُبكي… يفتحون لك قلوبهم قبل بيوتهم. يُحدثونك عن الأردن بحب عظيم: “نحب الأردن، ملكًا وشعبًا”… جملة سمعتها أكثر من مرة، ولم تكن مجاملة، بل نابعة من قلوب تعبَت لكنها لم تفقد دفئها.

ليسوا ضحايا فقط… بل أبطال حقيقيون
في سوريا، لا يوجد “شعب منهك” فقط، بل يوجد شعب مُبدع. مهنيون، حرفيون، أصحاب مشاريع صغيرة، شباب يعيدون تدوير الحياة من الركام… تعلموا كيف يخلقون الفرصة من اللاشيء، وكيف يُعيدون الأمل من وسط العتمة.

هم الآن يعوّلون على حكومة الإنقاذ لتقود مرحلة التعافي، ويضعون آمالهم في غدٍ أفضل، رغم كل الصعوبات والعوائق.

رؤيتي الشخصية… وحقهم في الحياة
رغم الواقع القاسي، أقولها بصدق: سوريا قادرة على النهوض. لدي يقين بأن هذا الشعب الجبار، إن توفرت له الموارد والظروف المناسبة، قادر على إعادة بناء البنية التحتية خلال عام، وخلال خمس سنوات فقط، يمكن أن نرى سوريا “سنغافورة الشرق الأوسط”… بجهود السوريين، لا غيرهم.

وأخيرًا… من القلب إلى القلب
ذهبت إلى دمشق بقلبي، وعدت منها أحمل همّ شعبٍ يستحق الاحترام، والدعم، والحياة.

قد تكون هذه الكلمات بسيطة، لكنها صادقة. هي شهادة إنسان رأى الحقيقة، بعيدًا عن المكاتب المغلقة، والتقارير السياسية، ومقالات التنظير.

إلى الشعب السوري… أنتم لستم وحدكم، وأنتم قدوة في الصبر، والإيمان، والكرامة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى