الدعجه يكتب : “الناتو في عمّان… والأردن في مركز العصب الأمني العالمي”

قراءة استراتيجية في اتفاقية فتح مكتب الارتباط الدبلوماسي للحلف بالأردن
عمان بوست – بقلم الكاتب والمحلل الأمني د. بشير الدعجه
لم يكن التوقيع على اتفاقية استضافة مكتب الارتباط الدبلوماسي لحلف شمال الأطلسي (الناتو) في العاصمة الأردنية عمّان حدثًا بروتوكوليًا عابرًا… بل هو تحوّل استراتيجي عميق يُعيد رسم خريطة التفاعل الأمني والسياسي في المنطقة… ويعزز من مكانة الأردن كحليف رئيسي وشريك لا غنى عنه في معادلة الأمن الإقليمي والدولي.
الرسالة التي حملتها مراسم التوقيع في بروكسل لم تكن فقط ديبلوماسية… بل كانت تحمل بين سطورها إشارات قوية بأن الأردن بات اليوم بمثابة “رمانة الميزان” بين الجنوب والغرب… وصلة الوصل الموثوقة بين عواصم القرار في الناتو وبين ساحات التوتر الممتدة من شرق المتوسط حتى القرن الإفريقي. فاختيار عمّان كمقر لأول مكتب للناتو في المنطقة، ليس ترفًا دبلوماسيًا… بل اعتراف مباشر بدور الأردن المحوري… وبقدرته على أن يكون منصة آمنة للتنسيق… والتخطيط… والمواجهة المشتركة للتحديات المعقدة التي تضرب خاصرة العالم.
إن الفوائد التي سيجنيها الأردن من هذه الخطوة تتجاوز مجرد تحسين قنوات الاتصال أو تفعيل برامج التدريب… فالمكتب المزمع افتتاحه لن يكون مجرد مكتب، بل سيكون “رادارًا استراتيجيًا” متقدمًا للناتو على حدود أخطر البقاع الجغرافية المتوترة… رادارًا يراقب التحركات الإقليمية… ويجمع البيانات الأمنية والاستخباراتية… ويحلل الإشارات المبكرة لأي تهديدات عسكرية أو إرهابية أو سيبرانية قد تنشأ في الجوار الجنوبي… الممتد من مناطق البحر الأبيض المتوسط حتى العمق الإفريقي… ومن السواحل الشرقية للبحر الأحمر إلى الصحارى المفتوحة والممرات الحيوية… وسيتم عبر هذا الرادار نقل تلك القراءات مباشرة إلى غرف القرار في بروكسل… ما يمنح الناتو رؤية ميدانية دقيقة وسريعة… ويمنح الأردن مكانة مركزية في هذه المنظومة.
أمنيًا… ستُفتح أمام الأردن فرص أوسع للولوج إلى منظومات تحليل المعلومات الاستخبارية المشتركة… وزيادة التنسيق العملياتي… والارتقاء بقدرات القوات المسلحة والأجهزة الأمنية الأردنية عبر برامج الناتو الخاصة بالدعم وبناء القدرات… ما يعني تحصينًا إضافيًا للعمق الداخلي… وردعًا استباقيًا للمخاطر المتسللة عبر الحدود.
استراتيجيًا… هذا المكتب يشكل مظلة جديدة للشراكة التي طالما سعى الأردن إلى تطويرها مع الناتو منذ انضمامه إلى “الحوار المتوسطي” عام 1995… ومن ثمّ مشاركته الفعالة في العديد من عمليات الحلف… سواء في أفغانستان أو في جهود مكافحة الإرهاب العابرة للحدود… واليوم، لم يعد الأردن مجرد متلقٍ للدعم… بل طرف فاعل ومؤثر في صياغة السياسات الدفاعية المشتركة.
سياسيًا… فإن وجود مكتب الناتو في عمّان يُعيد التموضع الإقليمي للأردن ويمنحه نقاط قوة إضافية في علاقاته مع حلفائه الغربيين… كما يبعث برسالة مزدوجة… من جهة للحلفاء بأن الأردن حليف موثوق… ومن جهة للخصوم بأن المملكة ليست وحدها… وأن أمنها مرتبط مباشرة بأمن المنظومة الأطلسية الأوسع.
عسكريًا… فإن التعاون سيتعزز على صعيدي التدريب ونقل المعرفة التقنية والتكنولوجية… لاسيما في مجالات الحماية من الأسلحة غير التقليدية… الأمن السيبراني… إدارة الأزمات الكبرى… والرد السريع على التهديدات المستجدة… ما يرفع منسوب الجاهزية الاستراتيجية لدى الجيش العربي والمؤسسات الأمنية الأردنية… ويضمن تماهيًا أكثر دقة مع معايير الحلف في القيادة والسيطرة والانتشار والردع.
حتى على مستوى الأمن الناعم… فإن فتح المكتب سيتيح للأردن فرصًا غير تقليدية في التبادل الأكاديمي والتقني والعلمي مع مؤسسات الحلف… خاصة في قضايا تغير المناخ والأمن البيئي… وهي مجالات بدأت تلعب دورًا رئيسيًا في النزاعات الحديثة… وتحوّلت إلى عناصر حساسة في الاستقرار العالمي.
ما حدث اليوم ليس مجرد صفحة جديدة في كتاب الشراكة بين الأردن والناتو… بل فصلٌ كامل يُكتب بحبر ثقيل على طاولة الأمن الدولي… إنه انتصار للثقة… وترسيخ لدور الأردن كقلب نابض في جغرافيا تتغير بسرعة… والأهم أنه خطوة ذكية تضمن للأردن أن يكون على مقاعد صناع القرار لا المقاعد الخلفية للمراقبة.
فمن يعش في منطقة تتقاطع فيها الأزمات كما في الشرق الأوسط… عليه أن يكون شريكًا فاعلًا في رسم الحلول لا مجرد متلقٍ للتداعيات… وهذا ما فعله الأردن…وللحديث بقية.
د. بشير _الدعجه