الخواجا يكتب : مآلات الثقافة والفنون والإعلام ( 2)

عمان بوست – بقلم د. ماجد الخواجا
بين وعود الرقمنة ونذر السيبرانية. لا توجد ثقافة رخيصة أو مبتذلة، فالثقافة هي وعاء التفاصيل والشؤون الحياتية للمجتمعات، هناك أرضية وجوامع مشتركة عامة بين البشر، فيما هناك خصوصيات فرعية تمتاز بها طائفة اجتماعية عن غيرها. لا يجوز إطلاق أحكام قيمية خاصة بمجتمع أو دين أو طائفة على ثقافات أخرى والحكم عليها بالصواب والخطأ وربما بالمباح والمحرّم لمجرد اختلاف الخصوصيات فيما بينهم.
لا يعني ذلك أبداً اعتمادية الثقافة والأدب والفنون على الإعلام باعتباره الوعاء الحاضن والمروّج لها، فالأمة حريصة على نشر ثقافتها ـ وخاصة لدى أفرادها ـ والإعلام بآلياته المتعددة هو أحد وسائل نقل تلك الثقافة إن لم يكن أعظمها.
المستقبل فقط سيكون للإعلام الرقمي القائم على فهم ومرونة واسعة جدا تجعل الفضاء مساحة للتنافس الحقيقي، فلم يعد من داع لما تدعى بالأبواب الثابتة والزوايا للكتاب، حيث يمكن للكاتب نفسه أن لا يتقيد بمواضيع محددة أو بعدد كلمات مقيدة أو بمساحة وحيز مكاني كما هو الحال على الصحيفة الورقية، فهو قد يعبر عن رأيه بتغريدة لا تتجاوز عدة كلمات، وقد يغير اسم زاويته، وقد يسهب في موضوع لعديد من الصفحات، ويمكنه تغيير صورته الشخصية كل مرة ، وهو أيضا يستطيع أن يكون ناقلا لأخبار ومروجا لدعايات، كما يمكنه أن يتواجد على عديد من المواقع بنفس اللغة والكلمات، أو بغيرها، وهو أيضا واحدا من الجمهور، كل هذا في وقت واحد. كان يقال أن المجتمعات تعرف من فنونها و أو من سجونها، يبدو الآن أن المجتمعات أصبحت تعرف بمؤثريها الذين قد تكون شهرتهم ملأت الآفاق، لكنهم لاينتجون حبة عدس أو رأس بصل على المائدة. فرق كبير بين مفهوم الإقتصاد الرقمي، وبين ما يسود الآن من وضاعة سيبرانية تكاد تقود العالم بأسره. نعم ربما أيضا الثقافة لا تنتج بصلاً، لكنها تحمل رصانة وحصافةً وهويةً ذات ملامح متفق عليها، تحمل ملامح المجتمع بأطيافه بأوجاعه بأحلامه دون الغرق فيما يترتب من عوائد.
تسود الآن ظاهرة ( الأنامالية). نعم الكل متواجد على ذات البقعة الجغرافية، لكن لكل واحدٍ منا عالمه الفريد المتفرد الخاص به، عالم يفيق وينام الفرد بداخله، يعتقد أنه عالم شكّله بطابع خاص به، فيما الحقيقة المفجعة أننا كلنا منتهكون ومستباحون سيبرانياً. كم هو حجم الإستباحة الرقمية لنا. الحقيقة نحن مسترقون رقمياً، مجرد قطيع إلكتروني أفظع بكثير مما كان كقطيع بشري.
كأنه خطاب النهايات: نهاية التليفزيون ونهاية الشاشة الكبيرة. نهاية ثقافة المكتوب ونهاية الصحافة الورقية. نهاية الإذاعة. نهاية الجمهور ونهاية التلقي. ربما كشفت الرقمنة والتحولات السيبرانية اسوأ وأضعف ما في الثقافة والأدب والفنون التي أيضاً ربما كانت تتحصن وتختبئ خلف ما كرّسته من صون وحماية إقطاعية لها بذريعة الفوقية والطبقية النخبوية، فانكشف وهنها وهوانها.
يكشف الصعود المذهل للرقمنة شغف الناس لإنتاج آلات شبيهة بالبشر، فهل ستنتج فكراً وفلسفات ورؤى وغايات واستراتيجيات وخطط تغطي كافة المجالات المجتمعية؟ هل ستعيد النظر في طرق وأساليب وأدوات تقديم المعارف والمهارات والاتجاهات والقيم؟ هل ستنتفي الفائدة لأدوات التقييم المعروفة مثل الاختبارات النظرية وربما الأدائية أيضاً؟ هل تستطيع التعبير عن نفسها بوضع طرق مثلى للحياة؟ هل ستصبح لها هوية وشخصية آلية تحاكي الهيئة الإنسانية في التفكير والانفعالات والتوجهات والأبعاد القيمية؟ هل ستقوم البرامج الروبوتات بتصحيح البيانات وتعديلها والبناءعليها والخروج بمعرفة آلية تحاكي المعرفة الإنسانية؟ هل ستصبح أداة جديدة فتّاكة يمكن استخدامها في الأعمال الشريرة والإجرامية وانتهاك حرمة وخصوصيات البشر؟ هل ستصبح بمثابة الرقيب أو المخبر الصادق للعابثين والإرهابيين بحيث يمكنه اصطيادهم واقتفاء أثرهم؟ هل ستقوم بإعطاء الخطط والاستراتيجيات والرؤى والغايات للشركات والحكومات؟ هل ستستخدم في مجالات استشعار الخطر والتنبؤ بالكوارث وحتى الحروب؟ هل ستنتج فكراً وثقافةً وأدباً؟ هل ستصبح باحثة في مجالات المعرفة المختلفة؟ هل ستنتج لغة أو لغات خاصة بها مستغنيةً عن لغات العالم الدارجة؟ هل سيكون لها وعي آلي يحاكي الوعي البشري، هل ستنفعل وتغضب وتعشق وتحزن وتعقب وتسهب وتمتعض وتعترض وتخجل وتصيبها الحميّة والنخوة والكرامة، هل يمكن أن تصبح لها صفات الخسّة والنذالة والحقد والفتنة. هذه الأسئلة وغيرها تمثّل رؤى المستقبل القريب لما يمكن أن يصبح العالم عليه. فأية حتمية ذكائية توليدية تنتظرنا ؟!
قالها أحدهم : إذا التقى مثقفان وجهاً لوجه، عليهما تبادل التحية فقط. ويبدو أنني نسيت ذلك وانخرطت في عبثية بث الحماقات الأدبية التي لا تنتهي.