العرجان يكتب: هورا .. الجنة التي تصلها بحبل
بقلم عبدالرحيم العرجان
عمان بوست – هورا .. الأخدود السحيق المتواري بين شواهق الكرك وعظام رواسيها، رافد سيل ابن حماد ذو الصخر المتحرك الرافض للثبات الجيولوجي.
من الطريق الملوكي اتجهنا للغرب من مثلث بلدة راكين ذات الإسم العربي المؤابي الذي يعني (الوقار والرزانة) وهي من شيم أهل الكرك وفضائل العرب الأقحاح المتمسكين بها أبا عن جد عبر الزمان فتغنى عرار في جمال ما حبانا الله بها من طبيعة ” لا بلقاء إلا ماعين ولا كرك إلا راكين” لنجتاز سهولا تشرف على البحر الميت بارتفاع 1050 متر عن سطح البحر وفي المساء وعبر الفضاء المفتوح يرى منها أضواء مدينتي القدس والخليل.
بتير أرض الصدوع ..
وبعد بلدة بتير وصلنا لنقطة البداية “مراح العلاوي” بعد سلسة من المنعطفات الحادة على الكتف الجنوبي للوادي السحيق المقابل لبلدة صرفا بالجانب الشمالي، متسابقين مع الشمس قبل أن ترتفع ويشتد حرها حاملين معنا ما نحتاجه من أدوات احترافية وحبال تأكدنا من قوة متانتها و سلامتها وفعاليتها، مجتازين عددا من الفوالق والقواطع الصخرية الحادة، كان قد أقيم فوق عدد من منعطفاتها نقاط مراقبة وحماية مررنا بثلاثة منها يربطها بالتواصل امتداد المشاهد بالنظر ويعتقد من بقايا قواعدها وأسلوب تشذيبها وطراز بنائها أنها نبطية الأصل، ومن الغير المستبعد أنها كانت ترصد طريق كان ينتهي بغور حديثة حيث مصب السيل، إلا أنه لعدم ثبات جيولوجيا المكان والتغير باستمرار بأثر تحرك الطبقات الأرضية وعوامل الحت والتعرية اختفت معالمها، ومن هنا جاء اسم بتير ” الكثيرة الصدوع ” وفي أكناف بيت المقدس هناك بلدة تحمل ذات الإسم والصفة.
وبعد ثلاثة كيلومترات وصلنا فم الوادي لنتجهز بأدوات الإنزال الجبلي من ارتداء الخوذ والحزام الحامل حيث يقوم قائد المسار بالتأكد من ارتدائه بالشكل الصحيح، ومدى صلاحية حلاقات التعلق والمرابط معيدا ومكررا تعليمات السلامة وشروط الإنزال السليم بعدم الإقتراب من الحواف بشكل قاطع وترك مسافة أمان بما لا يقل عن ثلاثة أمتار، واليوم تولى ذلك محمود الكردي وزوجتة كفاية الحسيني وهم من أصحاب الخبرة والتفاهم العالي ما بين قائد محطتي الإنزال وقاعدة الوصول.
إنزال مسقط الستين متر ..
بعد الإنزال الأول البالغ 15 متر فوق جلاميد بيضاء، والثاني البالغ 10 متر والذي احتاج ببدايته لقدر من الحذر واللذان شكّلا لنا نوعا من التأهيل والإعداد النفسي لما بعدهما والبالغ 25 مترا،كنا وصلنا لقلب الجبل حيث الإنزال الأكثر إثارة والبالغ 60 مترا الذي يحتاج في البداية للمسير على الحافة مع ربط حلقة الأمان بشكل منزلق عبر حبل حديدي ثُبت باحترافية بالصخور بمبادرة ذاتية من عشاق المغامرة وصولا لنقطة البداية التي نقف عليها مع القائد، حيث ترى الفضاء الفسيح ليخلق لك فارقا بالشعور مابين الإنزال الفعلي وارتفاع المدى المغطى بأشجار النخيل البري المتواري بين شواهق تلامس عنان السماء تعددت ألوانها وغلب عليها درجات الكرميدي والأصفر.
الإنزال كان يبلغ بالأصل 80 مترا إلا أنه نتيجة الحركة الدائمة للطبقات الصخرية تصدّع وانهارت أطرافة لترتفع قاعدتة التي تهبط عليها بعشرين مترا، ويحتاج منك للكثير من المهارة كونه متعدد التكوينات وأشكال التحدي، ففي المرحلة الأولى صخره أملس صقلتة مياه الشتاء، يليه مرحلة تعلق هوائي تدور فيها حول نفسك عدة مرات قبل أن تعود وتستقر على واجهة الطود الملون وتهبط منسابا بمجرى لولبي تنتهي بنهايته بفالق يستوجب عليك القيام بحركات الدفع بالإقدام للإبتعاد عن فجوات التصدع كي لا تتعرض للإصابة ،انتهاءا بمرحلة الصخر المائل وكذلك المقدرة على تتبع مجرى الماء الموسمي للمسير، وهذا الإرتفاع يستوجب اختيار قفازات احترافية لضمان التماسك والتحكم بالحبل وعازلة للحرارة أيضا والناتجة عن شدة الإحتكاك عن التسارع وحذاء مقاوم للإنزلاق، ويعد النعل الحامل للإشارة الصفراء نوع فيبرام من أفضل ما تم إنتاجه لذلك.
ثلاثة دقائق كافية لتشعر فيها من المتعة بما لا يوصف ما بين مشاهد الجمال على امتداد النزول والشعور بالتعلق وأنت تهبط بمهارات تراكمت لديك من تجارب مختلفة مع توافق عظلي وعصبي يحتاج للتركيز وسرعة البديهة وتقديرا للمواقف منصاعا بشكل تام لتعليمات قائد النهاية الموجهة، والمتابع لك خطوة بخطوة والذي يستطيع أن يوقفك أو يكبح تسارعك بشد الحبل، وهنا يستوجب من كل الزملاء إلتزام الصمت حتى تسمع تعليماته بدقة أو ليسمع مناداتك له.
وبعد هذه الجرعة العالية من الإدرنالين تحتاج إلى استراحة وفنجان قهوة من ماء العين المنسابة لأسفل الإنزال وتتنفس الصعداء وأنت تنظر إلى نقطة البداية مستمتعا بمراقبة زميلك المتعلق بالحبل بعدك، نستذكر ما أفادنا به خبير الجيولوجيا خالد المومني حيث قال
” أن هذه الطبقة تتبع صخور تكوين أم عشرين العائدة للعصر الكامبري والتابعة لمجموعة رم الرملية، وهي غير ثابتة ودائمة التحرك والتغير”.
جنة في وادي
وبعد ممارسة عملية الإنزال توالت العيون وعظم الجدول المنساب بين ما نبت وتشابك من نباتات القصب والدفلى وتحت ما تعلق منها واعتلى فوق الصخور من أشجار كالنخيل والتين والحماط ،وتغير في طبيعة المسار من جاف إلى مسار أخضر وجداول من الماء وينابيع في مجرى يضيق بواجهة صخور تكسوها الطحالب والسرخسيات وكأنك في عالم آخر تعجز الكلمات عن وصف جماله وصولا للإنزال الخامس ضمن المسار .
أصبح إنزالنا الآن بمحاذاة شلال عامودي عذب المياة شديد الإنهمار وضيق المدخل حيث احتاجنا لتركيز جيد بموضع الأقدام خشية الإنزلاق بفعل الطحالب، والجميل فية أنه كان يغمرك بشكل كامل بارتفاع 28 مترا تقريبا، وهو الإنتعاش الذي احتجناه كثيرا لتجديد واختبار القدرة، تلاه مسقط بسيط وآخر 7 أمتار وصلنا فيه لسيل وادي إبن حماد والتي تعد لنا كنقطة إستراحة، احتجنا أن نكافئ أنفسنا بالتمدد قليلا في مجرى السيل بينما انتظرنا اكتمال عدد الفريق للتوجه معا نحو مركز الزوار ،
وقد انهينا مسافة 11 كيلومتر بسلام ونحمل بدواخلنا شعلة متقدة بروح وتعاضد الفريق كما حملنا أجمل الصور وما انطبع في الأذهان عن ذاكرة المكان.
وعن طبيعة المكان جيولوجيا فقد أفادنا الخبير الجيولوجي أ. خالد المومني “بان وادي إبن حماد يقع على الحافة الشرقية من حفرة الإنهدام وفيه يتقاطع صدع البحر الميت التحولي مع صدع سواقة ابتداءا من هذه المنطقة ويمتد حتى الحدود السعودية شرقا، ولذلك تجد من الطبيعي أن هذه المنطقة كثيرة التصدعات والفواصل العمودية، أما عن الصخور المتساقطة في بداية الطريق فتعود إلى العصر الطباشيري”.