فراعنة يكتب : الرحيل القاسي

عمان بوست – بقلم الكاتب السياسي حمادة فراعنة
لم يتمكن نتنياهو من تحقيق أهدافه رداً على عملية 7 أكتوبر، فشل رغم احتلاله لكامل قطاع غزة، لم يتمكن من معرفة أماكن وجود الأسرى الإسرائيليين وإطلاق سراحهم بدون عملية تبادل، وأخفق في إنهاء المقاومة وتصفيتها، ولأنه يملك القدرة والتسليح والتفوق اختار طريق الموت للفلسطينيين.
لا توجد امرأة واحدة رفعت الراية البيضاء، وكل من ظهر منهن تقول عن حق وإيمان: لن نرحل، سنبقى فوق الأنقاض والخرائب والدمار، لن نرحل من هون، سنبقى، لن نرحل، فيأتيهن القصف والموت.
الموت هو الخيار القاسي، يجتاح الفلسطيني هناك، ويجتاح الأصدقاء هنا، الصديق النقابي المنهدس قاهر صفا، رحل في غير أوانه، لم تهزمه قوة الحياة، لا في اليمن، ولا في سوريا، ولا في الأردن، هزمه الموت، وخسرناه، بسبب عدم قدرته على مواصلة الاحتجاج.
كل الذين فقدوه، اختلفوا معه، مع عناده، مع صلابته، مع إيمانه بمواطنته الأردنية الراقية الوديعة، وفلسطينيته الراسخة، كان نقابياً منتخباً يختلف مع «الإخوان» ويواجههم، ويتحالف مع اليساريين والقوميين ويتصادم معهم، لم يكن مجرد رقم، بل كان نوعاً فريداً من الرجال، نقابي، وطني، مهني، قومي، يملك العناد، وليس لديه أي مظهر من الحقد، يملك العطاء ويرفض العفونة، تراث تقدمي، كما هو محافظ، خليط من معطيات الحياة.
لا اعتقد أن المرض هزمه أو تمكن منه، رغم مداهمته اللعينة له ولجسده، لأنني على يقين من معرفتي به، أنه رحل بسبب عدم قدرته الكافية على الاحتجاج، فالاجتياح الإسرائيلي لقطاع غزة: قتله، الاجتياح الإسرائيلي لقطاع غزة المصحوب بالموت والقتل، توافق مع المرض، فرحل رافضاً لما يجري لأهل غزة، لشعبه الذي قضى تفاصيل حياته متوسلاً رغبته في الحرية، والعودة إلى فلسطين.
الاجتياح والرفض عنوان قاهر صفا، مادته، لم يكن مساوماً حتى في أبسط متطلبات الحياة، وحقه فيها، ولهذا فقد حقوقه في الاستقرار والطمأنينة والمواطنة المتساوية كباقي البشر.
لم يتمكن من العودة، فقضى خارج فلسطين، مع عضويته لدى المجلس الوطني الفلسطيني، والعزاء له أن الأردن وأهله وترابه بقي دافئاً معه، وما يؤكد ذلك أن التراب الأردني النقي حضنه، وسيواصل الحفاظ عليه، حتى يعود جزءاً مما لديه، عبر أهله والأصدقاء، الذين سيحملون أثراً له، ويعودون به نحو النهر، ينشرون أنفاسه هناك بعد أن يقطعوا الجسر، قبل أن يصلوا أريحا وكفرمالك.
نحزن لفراق صديق، ويملكنا الحزن العميق لما يجري لشعب فلسطين في غزة، من دمار وقتل وتجويع وعطش، وحرمان من حق الحياة.
هكذا هُم أهل الكرك ومعان والطفيلة، والسلط ومأدبا وجرش حتى إربد والرمثا، وبني حسن وبني صخر، كل الذين يعشقون الأردن، يحبونه، يدينون له بالولاء والرفعة، يعيشون يومياتهم التضامنية، وتفاعلهم الإنساني النبيل مع شعبهم وامتدادهم في غزة، بل إلى سائر فلسطين، فالوجع واحد، والحلم واحد، وأمن واستقرار الأردن وتقدمه وديمقراطيتيه وتعدديته، هو عنوان الرافعة الأردنية لحرية فلسطين واستقلالها، ولهذا نفتقد قاهر صفا الذي آمنا معه بمصداقية مواطنتنا الأردنية، و»فلسطينيتنا حتى نخاع العظم»، كما قلتها في كل مكان، وأقولها وأكررها، ولن أتراجع عنها، الوفاء للأردن، كما هو الوفاء لفلسطين.
رحل قاهر صفا، له المغفرة ولعائلته العزاء، ونحن سنرحل من بعده، لا خيار لنا سوى مواصلة الطريق الذي سار عليه من أجل مستقبل أفضل لشعبنا كله في الأردن وفلسطين.