الخواجا يكتب : سؤال القيم وفيضان التحلل الرقمي

عمان بوست – بقلم د. ماجد الخواجا

دارت الحوارات حول إيجاد منصات وقواعد أخلاقية للإعلام في ظل الرقمنة القادمة بقوة وسرعة لا مجال حيالها إلا أن يتم مجاراتها، وصار الحديث عن خوارزميات يمكن لها أن تحتفظ بالأخبار أو المقالات لفترات طويلة مع تفاعل مباشر للجمهور مع سقف مرتفع هدم كثيراً من الحواجز التقليدية. مع دخول الإنترنت وما تبعه من إنشاء لمنصات تواصل اجتماعي، انتشرت بشكل هائل المواقع والصفحات الإعلامية التي تدعي أنها تمارس صحافة رصينة، بينما في الواقع أن كثيراً منها بعيد عن العمل الصحفي الرصين وقريب من العمل الدعائي أو توظيف العمل الصحفي لغايات تجارية بحتة. وظهرت مفاهيم لم تعهدها ساحة الإعلام من قبل، فالتنمّر الإلكتروني، والإبتزاز السيبراني، والجيوش الإلكترونية، والذباب الإلكتروني، الأخبار المفبركة، التضليل الإعلامي، هي بعض ثمار الرقمنة الإعلامية الهائلة. لقد استمر لسنوات طويلة النظر إلى الإعلام الجديد على أنه طرف آخر وخصم للإعلام التقليدي وليس تغيّراً لازماً فرضته تطورات وتحديثات وتحولات التكنولوجيا الرقمية.

إن الدعوة لوضع منظومة أخلاقية عالمية تراعي التطور الرقمي الحتمي، وتراعي بنفس الوقت كرامة وحاجات الفرد الإنسان كقيمة بذاته، هي أحد المتطلبات الأساسية للتنمية المستدامة التي تسعى في جميع أهدافها لتحقيق الأمن الإنساني العالمي كما ورد في أدبياتها. إن العالم يمرّ منذ أعلنت العولمة عن نواياها وأظهرت أنيابها التقنية، فقد تم الإعلاء من التوحّش والفردية والأنانية والبحث عن العائد المجزي السريع ولو على حساب كل المبادئ والقيم الإنسانية، كما أن شيوع خطاب الكراهية والتنمّر السيبراني، وفيضان التواصل الذي يسمى بالإجتماعي، لكنه في الواقع تواصل ذاتي منعزل عن التفاعل الحقيقي مع العالم، ومشتبك مع الجميع في حالة من الفوضى السيبرانية المذهلة التي لا يمكن وضع مقاييس ومعايير خاصة بها، ولا يمكن التنبؤ بمترتباتها ومداها وما ينتج عنها.

ماذا لو بقي المتلقي متلقياً فقط، دون أن يقحم نفسه في مسارات صناعة الرسالة الإعلامية، ويحمل على عاتقه مسؤولية التعبير عن آلام وأحلام ومشاكل الملايين ممن يعتقد بأنه يمثلهم، كنوع من الافتراض الجدلي القابل للطعن، هل سيكون حال مجتمعاتنا أفضل مما هي عليه، هل سيكون هناك فرصة لنضوج وتطوّر أدواتنا الفكرية والحضارية وقيمنا المشتركة في بيئة صحية أكثر، لكن بالمقابل من يمتلك الحق في حجب أو منع التعبير عن الرأي على قدم المساواة للجميع وفي أي زمان ومكان.

إن الحنين إلى عودة الرسالة الإعلامية أحادية الاتجاه، نوع من النوستالجيا المختلطة، لقد كان تطور وسائل الإعلام بفعل التكنولوجيا أمراً حتمياً، قلل من سلطوية وسائل الإعلام التقليدية، لتسود سياسة الباب المفتوح على الفوضى الرقمية، التي جعلتنا نتحسس إيجابية الرسائل أحادية الاتجاه، وإن اعتبرت نوعاً من الدكتاتورية الاتصالية. هذا النوع من الدكتاتورية وإن كان في جانب منه يتجاهل حق المتلقي في الرد على الرسالة التي تصله، لكنه في الوقت عينه، يحمي فئات كبيرة من الوقوع فريسة لانفلات الخطاب الإعلامي، وتحول الساحة الرقمية إلى حلبة سجال تهدد في كثير من الأحيان الأمن المجتمعي. إن التطور التكنولوجي لوسائل الإعلام وتحولها إلى أدوات متاحة بيد الجميع، تزامن مع ترهل البنى الاجتماعية، وأدى إلى تغير طريقة تشكيل الوعي الجمعي. هذا الثوران الجماعي نحو استخدام المنصات الرقمية لغرض التعبير وإبداء الرأي، في جزء منه حالة من التفريغ الانفعالي العاطفي غير الواعي، ينتج عنه وعي جمعي مشوّه، وسلوك قطيع سائد. أو ما يمكن تسميته بالديماغوجيا الرقمية. هنا تغيب أخلاقيات الإعلام، ويتجلى فقدان قيم المواطنة الرقمية، التي تنص على معرفة المواطن الرقمي لمسؤولياته تجاه نفسه ومجتمعه والمتلقين الآخرين بوعي وحكمة.

هنا يتجلى فقدان الاتزان الرقمي، وتعميق الصدوع خلال الأزمات، واستثارة الحساسيات والتوترات، والحشد والتعبئة ضد فئة من الناس، إن الرسالة الإعلامية ينبغي أن تكون موجهة بدقة وعناية، ومضبوطة اللغة والصياغة، بعيداً عن الهذيان الرقمي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى