حاتم الكرك وسلطان باشا الأطرش: كرم الأردنيين ووفاء الأحرار

عمان بوست – م. صفوان عثامنة

يعدّ سلطان باشا الأطرش (زعيم الدروز) من أبرز قادة الثورة السورية الكبرى، وقاد كفاح أهل جبل العرب ضد الانتداب الفرنسي، ويذكر أن والد سلطان باشا الأطرش استُشهد بعد أن أعدمه سامي باشا الفاروقي، الحاكم العثماني في سوريا، إثر معركة الكفر عام 1910، نتيجة مقاومة أهالي الجبل لظلم الجندرمة العثمانية.

قاد سلطان باشا ثورة واسعة، اصطدم فيها بقوات الاحتلال في معركة تل الحديد عام 1922، التي كبّد فيها الفرنسيين خسائر جسيمة، لكنها اضطرته لاحقا للجوء إلى الأردن، حيث استُقبل بحفاوة لدى العشائر الأردنية من الشمال إلى الجنوب، وبقي يتنقل بينها لسنوات حتى عاد إلى مسقط رأسه عزيزا مكرما.

من المواقف النبيلة التي حدثت، أن الباشا نزل في بلدة المزار الجنوبي في الكرك، وهناك استقبله الشيخ محمد منيزل القطاونة أحد كبار وجهاء الكرك، والملقب ب حاتم الكرك لشدة كرمه، فما كان من الشيخ منيزل إلا أن أكرم الضيوف كعادته، وكان يقوم على خدمة الضيوف كعادة الأردنيين، أبناءهم، وكان نجل الشيخ منيزل أسمر البشرة. أعجب السلطان باشا بحسن تصرف وسلوك الفتى في الضيافة، فظنه عبداً وذكر ذلك للشيخ منيزل! فما كان من الشيخ منيزل إلا أن أن أجاب، نعم هو عبد…وهو هدية مني لك، يخدمك في الطريق!

قبل الباشا الهدية شاكراً، وأخذ “العبد” معه. كان هذا الفتى حسن الهيئة، مؤدبا، وهادئا، وقد ظنه الباشا خادماً فعلاً.

ثم مرّ الباشا في طريقه على مضارب عشيرة أخرى من عشائر الكرك الكرام، فاستُقبل هناك بكل الحفاوة. لكن ما لفت انتباهه أن شيوخ هذه العشيرة كانوا يحيّون “العبد” المرافق له بكل احترام وتقدير، حتى أن بعضهم صافحه قبل أن يصافح الباشا نفسه!

استغرب الباشا وسأل أحدهم:

لماذا هذا الترحيب الكبير بفتى خادم؟

فردّ أحد الشيوخ متفاجئاً:

“أي خادم يا باشا؟! هذا ابن الشيخ محمد منيزل القطاونة، حاتم الكرك!

فصُدم الباشا، وسأل الشاب مباشرة، فأقرّ بما حدث قائلاً:

“أراد والدي أن يكرمك بأغلى ما عنده… وأنا ابنه البكر.”

سكت سلطان باشا لحظة، ثم قال قولته المشهورة:

“منيزل الكرك ما كان أقل من حاتم الطائي، ولن نكون أقل وفاءً من أهله”.

ومن يومها، اعتبره الباشا كأحد أبنائه، وأخذه معه إلى جبل العرب، ثم أرسله إلى لبنان ليتلقى تعليمه في كنف عائلة درزية معروفة من أصدقاء الباشا، فأكمل دراسته الابتدائية والثانوية، ثم التحق بالجامعة، وحصل على شهادة الحقوق.

عاد إلى الكرك فيما بعد، يحمل اسماً جديداً:
السيد بدلا من اسمه السابق، وكان رمزا للوفاء، والتكريم، والمجد المشترك بين الكرك وجبل العرب.

وبقيت القصة تُروى جيلاً بعد جيل، يرددها الكركيون والدروز على السواء.

هذه القصة ليست عن كرم فرد، ولا عن شهامة زعيم فحسب، بل عن جوهر الشخصية الأردنية التي فطرت على الكرم والتسامح، وعلى أن الكرامة لا تُشترى، بل تُمنح في ساعة وفاء.
لقد قدّم الشيخ محمد منيزل ابنه للضيف كما يُقدَّم القلب لمن يستحق، دون أن يسأل عن أصل أو فصل أو طائفة، ودون أن يُفرّق بين درزي أو مسيحي أو مسلم أو شركسي أو كردي أو أرمني، فالأردني لا يرى في تنوّع الناس اختلافاً، بل يرى فيه ثراءً وشراكة في الخبز والدم والمصير.
وهكذا ظلّ الأردن، في كتف الهاشميين، وطناً للجميع… لا يُسأل فيه الضيف من أين أتى، بل يُكرم لأنه ضيف. ولا يُسأل فيه الجار عن ديانته، بل يُحترم لأنه جار. ولا تُقاس فيه الرجولة بالمال، بل بالموقف والمروءة والنخوة.
في قصة سلطان باشا وابن منيزل، نرى تجسيداً حياً لعقيدة أردنية خالصة:
أن الكرم لا يُقاس بالمائدة، بل بالتضحية… وأن الأوطان لا تبنى إلا بأمثال هؤلاء!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى