فن وثقافة

«حكي القرايا».. حين ينفض رمضان الرواشدة الغبار عن ذاكرة الشوبك فتشتعل الحكاية

عمان بوست – فاتن شحادة

رواية «حكي القرايا» ليست كتابًا يُقرأ، بل بوابة تُفتح على مصراعيها نحو زمنٍ مضى… زمنٍ كانت فيه الشوبك نابضةً بالحياة، تتنفس على وقع سنابك الخيل، وتعيش على شفا الغزو، والحلف، والثأر.
في هذا العمل، لا يكتب رمضان الرواشدة رواية، بل يستحضر الذاكرة من رماد النسيان، ليمنحها جسدًا من السرد، وروحًا من الحكاية. بأسلوب يشبه السمر البدوي، حيث النار دائرة، والكلمات تهطل كالمطر، يروي لنا ما لا تقوله كتب التاريخ: حياة القبائل كما عاشت حقًا، لا كما سُجّلت رسميًا.
تبدأ القصة مع منصور الأعمى، فلاّح بسيط يرى في القمح حلمًا، وفي الأرض وطنًا، وفي الزواج أملًا. لكنه سرعان ما يجد نفسه على تماس مع تاريخ ملتهب، ابنًا لمُصلح عشائري، شاهِدًا على صراعات لا تهدأ، ودمٍ لا يجف.
ثم لا تلبث أن تهدر العاصفة. عام 1834، يجتاح إبراهيم باشا المصري جنوب الأردن، فتتّحد القبائل، تُشعل القلاع نار الفزعة، ويولد حلف القرايا… لحظة اشتعال الكرامة. كأنك تسمع صوت الحوافر يرتجّ في قلب الورق، وكأنك تقف وسط رجالٍ شدّوا سيوفهم لا دفاعًا عن أرض، بل عن معنى الوجود.
ولأن الرواية لا تؤمن بنصف الحياة، تُنصت كذلك لصوت المرأة في الظل. من الشيخة علياء الضمور التي تتحدى السلطان دفاعًا عن الثوار، إلى أسماء عشائر تُنسب إلى النساء، يكتب الرواشدة التاريخ بنبرة تقول: المرأة لم تكن خلف المشهد، بل في عمقه.
ثم تأتي التفاصيل… يا لهذه التفاصيل!
أغاني العرائس، أهازيج الحرب، المعلاق والشنينة في فطور العرسان، شماغٌ مقلوب يعني أن الثأر قد بدأ، ورمضانٌ لا يُدْرِك الناس حلوله إلا بعد انتهائه! كلها صور تشكّل نسيجًا نابضًا من الحياة، من ذاكرة الأرض، تنبض من قلب الموروث الشعبي، تُشعر القارئ أنه لا يقرأ، بل يُعايش، وكأنه وُلد هناك، في تلك القلعة، تحت سماء الشوبك.
الرواشدة لا يؤرّخ… بل يُنصت.
لا يقتبس… بل يحفر في الذاكرة.
يجمع حكايات الرواة، ويعيد صياغتها بلغةٍ رشيقة، مفعمة بالحياة، مشبعة برائحة التراب، وبصوت من عاش لا من قرأ، كأن الكلمات تنبع من أعماق الأرض نفسها، تهدر كصوت الريح بين الجبال، وتنبض بحرارة النار حين يشتعل حولها السامر الليلي، حيث تُروى الحكايات في حضرة الصمت والانتباه، وتُوقظ في القارئ شعورًا بأنه لا يطالع رواية، بل يُستدعى لحضورها شاهدًا، ورفيقًا، وأحد أبطالها.
وتبلغ الرواية ذروتها مع تصاعد الصدام ضد الدولة العثمانية، واندلاع ثورة الهية، وامتداد الغضب حتى الثورة العربية الكبرى، حيث يزحف شيوخ القبائل نحو معان، لا بأوامر، بل بنداء من القلب: الحرية تستحق أن نركض نحوها.
«حكي القرايا» ليست مجرد رواية… إنها وثيقة منسوجة بالحب والدم، بالقصص والصبر، بالسيف والحنين.
إنها الشوبك حين كانت تحكي عن نفسها، بصوتها، بلغتها، بروحها التي لا تموت وكيانها الذي لن يندثر…

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى