الخواجا يكتب : العملاء عبر التاريخ

عمان بوست – بقلم د. ماجد الخواجا
لم يكتب التاريخ عن الخيانة والعمالة غير كل ما يشين الفاعلين لها، فكانت عبر التاريخ سلوكاً معيباً دنيئاً لا تنقصه الخسّة والنذالة. وقد أطلقت أوصاف ومسميات على هؤلاء مثل « الطابور الخامس»، المرتزقة، المتعاونين، العصافير، الجواسيس، العملاء، الخونة. ولم يطلق عليهم أي مسمى له وقع حسن.
كيف يمكن تمييز الخيانة عن الوطنية؟ لا يوجد تعريف شامل محدد ومتفق عليه، وجاء آينشتاين واضعاً نظرية النسبية التي جعلت من كل شيء يحتمل الخطأ والصواب تبعاً للزمن والسرعة. فما يصحّ لدى جماعة أو فرد الآن، قد يصبح جريمة في زمنٍ آخر مع جماعات أخرى. يعرّف البعض الخيانة على أنها انتهاك العقود والمواثيق والأعراف من طرف أو فئة اجتماعية. والخيانة تجلت في تعبيرات من قبيل « الطابور الخامس، الطعن في الظهر والغدر، الولاء المزدوج».
أول من استخدم تعبير الطابور الخامس الجنرال الإسباني «إميليو مولا» وذلك أثناء الحرب الأهلية الأسبانية التي دارت عام 1936، عندما زحف نحو مدريد وكان جيشه يتكون من أربعة طوابير، فقال أن هناك» طابوراً خامساً» داخل المدينة مدريد، ويقصد بهم مجموعات من المتعاونين معه من أبناء المدينة ذاتها. وأصبح الوصف يطلق على الفئات المتعاونة مع الغزاة والجيوش الأجنبية من الأعداء.
تاريخ الخيانة طويل وممتد امتداد التاريخ نفسه، بدأت الخيانة من قابيل لأخيه هابيل ليبتدئ تاريخ البشرية بخديعة وقتل أول نفس غدراً. وخيانة يهوذا الإسخريوطي للسيد المسيح، وخلّد التاريخ جملةً ترد في الأدب وهي « حتى أنت يا بروتوس» وهي شخصية مرتبطة بالخيانة لوالده وإلى عمّه يوليوس قيصر صاحب تلك الجملة بعد أن طعنه بروتوس الطعنة القاتلة التي أجهزت عليه فنظر النظرة الأخيرة لإبن شقيقه وهو يقول له حتى أنت يا بروتوس!. أما المير جعفر فقد تسببت خيانته بالنصر لبريطانيا واحتلالها للبنغال لمدة 200 عام.
حفظ التاريخ عديد من أسماء وصمها بالخيانة، حتى أن منهم ممن يعلم قبرهم، يقوم الناس برجمهم ولعنهم عند المرور بجوار قبورهم، وقد استخدمت أسمائهم في الأدب والشعر والقصص عندما يرد فيها ذكر الخيانة. أبو رغال رمز الخيانة في التراث العربي الإسلامي، ويقال أنه من أرشد أبرهة للوصول إلى مكة مقابل المال في عام الفيل. ابن العلقمي وزير الخليفة العباسي المستعصم سبب سقوط بغداد. عبد الله ابن سبأ ينسب له تأجيج الفتنة الكبرى في الإسلام. الخيانة ليست مقصورة على فئات محددة، فقد يكون الخائن فرداً بسيطاً، وقد يكون الحاكم أو قائد الجيش أو الوزير أو المدير.
ما زال التاريخ يحفظ لنا كيف استبيحت مدن الأندلس وقراها نتيجة اصطفافات وخيانات أقرب المقرّبين للولاة حينها، وما زالت اجتياحات المغول للعالم الإسلامي مكتظة بحكايات الخيانة والإنحياز للأعداء بما يسهّل احتلال المدن وهزيمة الجيوش. يقال أنه بعد استعادة صلاح الدين لبيت المقدس سنة 1187 ميلادية، وبعد إعداد وجهاد عظيم، قام بعض أقرب المقرّبين له بتسليم القدس إلى المحتلين. لم يتم القضاء على الدولة العباسية ومحو آثارها العظيمة التي امتدت من حواف الصين إلى حواف فرنسا، إلا بخيانات متسلسلة توجّت في احتلال بغداد على يد هولاكو قائد المغول عندما تعاون ابن العلقمي الوزير على تسليم الخليفة المستعصم وأركان الدولة إلى حين اكتمالهم، ليضعوا فيهم السيوف ويبيدونهم عن بكرة أبيهم. لتسقط بغداد سنة 1258م، وتتبعها دمشق بذات الأسلوب لتسقط سنة 1264م، لقد واكبت العمالة للأعداء قصص النصر والهزيمة، حتى أنها أضحت نوعاً من « إدمان الخيانة». الآن تدور في العالم عديد من الحروب المعلنة والسريّة. وتبقى حكايات العملاء في صورتها المجرّدة ظاهرة معيبة مهما جرى من تسويغ وتبرير لها