أقلام بوست

محاضرة بحجم وطن… ريّت أيامك طويلات يا دولة أبا عصام

عمان بوست – بقلم: صفوان عثامنة – الصريح

في مسيرة الأوطان، تمرّ الوجوه وتغيب، وتلمع الأسماء ثم تأفل، كما تمرّ السحب على صدر السماء، فلا يبقى منها إلا ما أمطرت خيراً، أو خلّفت ظلاً، أو روت ظمأ الأرض والقلوب. وهناك وجوه، تمشي على الأرض ولا تُشبه أحداً، تسير بوقار مَن صاغوا الأوطان حرفاً حرفاً، ونقشوا أسماءهم لا بالحبر، بل بالبذل، ولا على الورق، بل في وجدان الناس وتاريخ البلاد.

دولة عبد الرؤوف الروابدة، أمدّ الله في عمره، ليس مجرّد اسم في سجل الدولة الأردنية، بل هو فصل مضيء من فصولها النادرة، رجل من معدن الحكمة، لا يُشترى ولا يُصطنع، فإذا نطق أذعن السامعون، وإذا غضب، ارتعدت الحروف، وإذا نهض للمسؤولية، خجل التردّد وانكمش الضعف!

شهادتي فيه – وإن خِلتها مجروحة – فهي لا تخرج عن كونها شهادة ابنٍ في حضرة أبيه الكبير، فأنا ابن الصريح، وهو من رحمها الطيب الواحد، كما نحن من ترابها ومائها وملحها، وهو عمي في المحبة والقدر والمقام، وفي وشائج الانتماء وذاكرة الجيرة والأيام.

قريتنا لطالما تيهت به فخراً، وازدانت باسمه في كل محفل، كانت تراه ابنها البار الذي رفع رايتها في كل مقام، وسقاها من ماء صوته في كل مجلس، ولم ينكر لها يوماً فضلًا، ولا جحد ترابها الذي علّمه الخطوة الأولى، وفتح له دروب المجد والرفعة.

وإنني، إذ أكتب عن دولة عبد الرؤوف، أفعل ذلك بتواضع الابن أمام مقام الأب، وبخشوع الجيل أمام عظمة من سبقوه تجربةً وحكمةً وعلماً. هو كبيرنا في البلدة،
وكبيرُ رجالات الوطن في الموقف والرأي والتاريخ، في كنف الهاشميين الأخيار، حافظاً للعهد، صادقاً في الولاء، وثابتاً على مبادئ الدولة ورسالتها.

هو رجل من مدرسة الهواشم، لا بالانتساب فقط، بل بالتماهي مع القيم: صدق الولاء، ووضوح الرؤية، وثبات الخطى. لم يكن ولاؤه للعرش الهاشمي شعاراً يُرفع، بل حياة تُعاش، وشغفاً لا يخبو، ووفاءً لا يضعف. كان الأقرب والأوفى، وكان الأصلب في محن الزمان، لا يهادن في الحق، ولا يجامل على حساب الدولة.

وفي ندوته الأخيرة التي احتضنها منتدى الحموري الثقافي، نثر من الحكمة ما يُكتب بماء القلب، وجاء بيانه تذكرة للأجيال، حين قال:

“التاريخ ليس في ذاكرة الوطن فحسب، وإنما هو مصدر الاعتزاز الوطني، عندما تكون مصادره حقيقية، لم تلوثها الأجندات الخاصة ولا الأهداف الظالمة. وبناء الدولة الأردنية لم يكن مصادفة، بل رسالة استندت إلى دور، وعلينا أن نعي الرسالة ونفهم الدور، فالأردن مستودع النهضة العربية، وحامل لواء مشروعها في الوحدة والحرية والحياة الفضلى.”

وأكد أن “الأردن ظل متمترساً في خندق العروبة، مدافعاً عن قضايا الأمة وفي القلب منها فلسطين، لا طمعًا بمكافأة ولا رغبة في اعتراف، بل وفاءً لرسالةٍ تاريخيةٍ وأخلاقية. وأن الأردنيين تربّوا على العروبة، كما أن الدولة الأردنية لم تفرّط في وحدة الشام، ودفعت ثمن ذلك جهداً وثروةً.”

ثم أضاف: “علينا أن نُصرّ على عروبتنا، وفي الوقت ذاته أن نحيي هويتنا الوطنية الأردنية، التي ترسّخت بعوامل تاريخية وثقافية ومجتمعية، فالوطن للجميع، والهوية للأوفياء.”

تلك كانت كلماته، لكنها في جوهرها نقشٌ على صخر الزمن، تذكيرٌ بأن الهوية ليست مجرد وثيقة أو انتماء مكاني، بل عقيدةُ روحٍ، وموقفُ شرف، وسيرةُ تضحية.

هو الروابدة… رجلٌ لا يسير في ركب أحد، بل تلتفت إليه الركبان، تُستشار منه التجربة، وتُقرأ في قسمات وجهه خرائط الدولة، وتُروى في نبرة صوته أساطير الحكمة الوطنية.

وفي حضرته، يخجل التصنّع، ويصمت الادعاء، ويتهذّب الكلام. وأنا ممن جلسوا في ظل فكره، واستظلوا بحكمته، وتعلّموا من مدرسةٍ ليس فيها مكان للزيف أو الادّعاء.

في محاضرته الأخيرة، لم يكن يُلقي حديثًا، بل كان يسكب روح وطن، يرسم ملامح أردن نريده كما رآه الهواشم الأوائل: عربياً في انتمائه، أميناً على رسالته، مُخلصاً لهويته الأردنية، لا يساوم على حق، ولا ينحني لعاصفة.

يا دولة أبا عصام… لك من قلبي، ومن أهل الصريح الذين عرفوك كبيراً، قبلة عرفانٍ على جبينك، ودعاء محبة موصول: “ريّت أيامك طويلات عمي عبدالرؤوف”. ففيك الثبات حين تضطرب الموازين، وفيك وضوح البوصلة حين تتشابه الجهات، وفيك سكينة الوطن حين يعلو الضجيج.

دمتَ كما أنت: وجه الأردن الوضيء، وصوت ضميره، ورمز حكمته… رجلاً يُشبه الوطن في أبهى تجلياته، ويُشبه الحكمة حين تمشي على قدمين.

محبّكم: صفوان عثامنة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى