الخواجا يكتب : عمالة صغيرة

عمان بوست – بقلم د. ماجد الخواجا
ثمة أنواع كثيرة من الممارسات التي يمكن أن توصف بالعمالة والخيانة، فهي تحدث يومياً، لكنها ليست بمستوى العمالة للأجنبي الخارجي. إنها سلوك ملاحظ ضمن نطاقاته الضيقة ودائرته الوظيفية.
يتصف العميل بعديد من السمات المميزة له كالأنامالية التي تعني « أنا ومن بعدي الطوفان»، النرجسية أي حبّ الذات وتقديم أهوائها ورغباتها عن كل شيء، السيكوباثية اللااجتماعية وهي الشخصية ضد المجتمع والتي لا يتحرج صاحبها من القيام بأية ممارسات دون أن يخضعها لأية منظومة قيمية أخلاقية، الانتهازية والوصولية المترافقة مع طموحات رخيصة بحجم ومستوى ومكانة صاحبها.
يعزز هذه الممارسات النمط الاجتماعي أو الوظيفي أو العائلي السائد، فالإدارة الشكاكة غير الواثقة من نفسها، تقوم ببناء نظم وهيكل تنظيمي خفّي غير رسمي، بحيث يساعدها على تأسيس علاقات إدارية مشوّهة قد يتصل عبرها موظف في أدنى مراتب السلّم الوظيفي مع أعلى رأس الهرم الإداري، كما أن الأب الذي يعتقد بأن وجود مصدر له مسرّب للمعلومات عن سلوكات أفراد العائلة، عامل داعم لبقائه في مركز القوة والسلطة والتحكّم بالأسرة. وهي ذات النظرية المستخدمة في الصفوف المدرسية عندما يتم العناية بالمنهج الخفّي على حساب المنهج المعلن الرسمي، وبالنظرية المعتنقة لدى المعلّم على حساب النظرية المفترض استخدامها في العملية التربوية. فنجد تلاميد يتطوعون أو يتم تكليفهم كمصدر للمعلومات عن بقية التلاميذ، واشتهر عبر التاريخ المدرسي أشخاص بأدوار محددة مثل « عريف الصف» أو العريف السرّي الذي لا يعرفه الطلبة، ويتعزز هذا السلوك بتعزيز القائمين عليه. لا بل يصل الحال إلى مجموعات المنحرفين والزعران عندما يتم تطويع أفراد لتوصيل المعلومات عن غيرهم داخل المجموعة وخارجها، وفي البيت تسعى الزوجة إلى توفير مصدر معلومات عن زوجها ويكون في العادة الابن الأصغر أو الإبن المقرّب لها.
ثمة أفراد يتطوعون هكذا دون إكراه ودون انتظار أية مكافآت على المعلومات، حيث يسود لديهم الاعتقاد أن لهم أدوار هامّة بأن يصبحوا مستودعاً ومصدراً للمعلومات، فيما هناك من يستحوذ على معلومة ساذجة لكنها غاية في الأهمية للمتعاملين مع الدائرة، فيقوم ببيعها مقابل عائد مادي بسيط، كأن تسأله عن كيفية السير في المعاملة، ليتناولها منك ويشرع في تقليب صفحاتها وهو يعرض عليك التحديات التي ستواجهك أثناء السير بإجراءاتها، ولأننا دائماً نبغض الانتظار وعدم وضوح المسار، نميل إلى البحث عن سبل الخروج من هذه المعضلة، ليظهر ذاك المحتكر للمعلومة وكأنه هبط إلينا لينجدنا. كثيراً ما تمنح الثقافة التنظيمية السائدة أفراداً بعينهم مكانة وأهمية خاصة، أتذكر ذاك الذي نشاهده عند أبواب ومداخل بعض الدوائر التي تتطلب المعاملات فيها وضع طوابع كنوع من الرسوم غير النقدية، فكان يمثّل البوابة والدليل الإرشادي لسير المعاملة، شريطة أن يتم شراء الطوابع منه بسعرٍ مضاعف عن سعرها الرسمي. وساد لزمنٍ إداري طويل أنه ليسمهماً أن تعرف مدير الدائرة، وإنما المهم هو أن توطد العلاقة مع المراسل أو المستخدم الذي يتقن السير في دهاليز الدائرة وملتوياتها ومتعرجاتها، لينجز لك المعاملة وأنت تحتسي فنجان قهوتك على كرسي متهالك.
ونشاهده في معظم شؤوننا اليومية، لكن كي لا نبتعد فن الفكرة الرئيسة للموضوع والمتمثلة بالتطوع كعميل للمدير أو للأب أو للزوجة أو للمعلّم، فإن فكرة إحتكار المعلومة واستغلال هذا الاحتكار ليعود بالفائدة الشخصية المادية أو المعنوية، لن تختفي من دوائرنا مهما بلغت الشفافية والحوكمة والأتمتة، فثمة نوازع إنسانية تظل تستبيح الوجدان بأن هناك من يمتلك المعلومة وأن علينا الامتثال له أو تسخيره لخدمتنا.