الخواجا يكتب : كسل رقمي

عمان بوست – بقلم د. ماجد الخواجا
عندما أفاق العالم في بدايات عام 2020 على وباء جديد اجتاح كافة الدول وتم إعلان عالمية الوباء وضرورة اتخاذ التدابير الوقائية بشكل ملزم لجميع دول العالم، ومع تطور التكنولوجيا الرقمية، فقد أصبح الخيار الوحيد لغايات تسهيل الحياة اليومية وشؤون البشر عبر ما سمي « عن بعد» ليصبح العمل والعلاج وإجراء المعاملات والتسويق والترويج والترفيه والتعلّم كلها عن بعد.
ما أن تبنى العالم فكرة رقمنة التعليم والتحوّل إلى التعلّم الإلكتروني وعن بعد وعبر المنصات الرقمية، فقد أصبحت أحد أهم المعايير فيما يدعى بمنظومة التحديث التعليمي، سلسلة الإجراءات المستندة للرقمنة وتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، لقد أصبح العالم تحت وقع هوس الرقمنة في مختلف مفاصله الحياتية، وأصبح مقياس التقدّم للمجتمعات يتمثل في مدى شيوع استخدامات التكنولوجيا الرقمية.
هنا تبدو الإشكالية في أوضح تجلياتها، بعد أن سادت قيم الهوس الرقمي المؤدي إلى الكسل الرقمي، والذي ينتهي في التجهيل المرتبط بالرقمنة.
نعم هناك تجهيل رقمي كما هو الحال مع التجهيل التقليدي، هناك كسل رقمي مثلما هو الكسل الجسدي والعقلي والاجتماعي والعاطفي.
إن تراكمية أي شيء تؤدي إلى حالة من الاعتياد والمألوف وصولاً إلى مستويات متدنية من الأداء أو الإقبال عليه. ويبدو ان الرقمنة مع شيوعها وذيوع صيتها، وانتشارها الأفقي والعمودي بحيث اقتحمت كافة السواتر والأسوار، واستباحت كافة التحصينات والجدران، فقد بدأ يظهر نوعاً من الإعتياد الرقمي في مختلف المجالات، وخاصةً في مجال التعليم والتعلّم.
بالتحديد فإن ما أعنيه بالكسل الرقمي، هو بزوغ نوع من الدهاء الإلكتروني لدى الطلبة، في ظل التفاعل المتكرر والمتواصل مع ما تدعى باللقاءات الإلكترونية عبر تقنيات رقمية، وأيضاً بالتعامل المستمر مع الشبكة العنكبوتية ومواقع التواصل الاجتماعي، والقيام بحل الواجبات وتلقّي التعليمات عبر مجموعات إلكترونية، فقد توافرت لديهم ادوات يمكن تسميتها « أدوات الدهاء والمكر الإلكتروني» التي أتاحت لهم فضاءً واسعاً من الكسل الرقمي، وعدم بذل جهود أكاديمية ملموسة وفعّالة.
ليجيء تطبيق « Chat GPT» الذي اغتصب مساحة لا بأس بها من المهام التعليمية، فيميل الطلبة للإستعانة به في تأدية الواجبات، حتى يطل علينا جيل الروبوتات والتطبيقات الجاهزة والمتأهبة لتقديم أية خدمات إلكترونية، بما يكاد يودي إلى الهاوية مفاهيم بذل الجهد الأكاديمي والبحث والقراءة المتمعنة والاستعداد للإختبارات وتنفيذ الأنشطة التعليمية المصاحبة، هذه كلها أصابها كسل ووهن عام جعلها في المراتب الأخيرة من أولويات الكثيرين من الطلبة.
لست مغرماً بالماضي والتغنّي بأمجاده وعاداته، لكن الحقيقة الموجعة أن كثرة العناية بالمهارات الأكاديمية الناعمة التي يتبناها دعاة الرقمنة، عمل على إنهاك وإضعاف المعرفة التخصصية لحساب شتات معرفة عامة، تماماً كمن يعتني بالمقبلات على حساب الوجبة الرئيسة الأساسية.
إن إيلاء التحول الرقمي العناية القصوى، لا يعني بحالٍ من الأحوال الإهمال للعلم العميق والمعرفة الرصينة الثقيلة المتخصصة. فكل المقبلات مهما بلغ حجمها وطرق تقديمها وجاذبية تغليفها، لن تغني شيئاً إذا ما كانت الوجبة الرئيسة حاضرة في المنتصف من طاولة الأكاديميا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى