الخواجا يكتب : انتقائية الإعلام والحروب المنسية

عمان بوست – بقلم د. ماجد الخواجا
هكذا في لحظةٍ ما تبرز عناوين رئيسة تتحدث عن حربٍ طاحنةٍ تدور في ميانامار أو الكونغو أو السودان أو هاييتي، النيجر ومالي، الصومال واليمن، ثم سرعان ما يتلاشى أيّ ذكرٍ لتلك الحروب، تصبح كأنها لم تقع أو كأنها انتهت دون معرفة ما ترتب عنها، من المنتصر ومن المهزوم، ما حجم الخسائر والدمار، ما عديد القتلى والمهجرين والمعتقلين والمختفين قسرياً. تنسى كأنها لم تكن. هذا هو ديدن الإعلام العالمي الذي ينقلنا ويتنقل بنا بين الأحداث والوقائع، فيضخم هنا ويقزّم هناك، يهوّل ما يجري في دولة ما، ويهوّن ما يجري في دولةٍ أخرى.
من بقي يتذكر ما جرى ويجري في الصومال كمثال، حتى السودان التي تم استباحتها وتدور فيها حروب أهلية طاحنة، لنكتشف أن العاصمة كانت محتلّة من طرف حميدتي، وأنه يجري تحريرها شارعاً وحارةً وجسراً وقصراً. فيما كان العنوان والخبر الرئيس طيلة السنتين الماضيتين للحرب الروسية الأوكرانية، مع وجهة نظر أحادية غربية تتحدث عن اعتداء وعدوان روسي على أوكرانيا، وفيما نفس الإعلام الغربي وعلى مدار أكثر من 500 يوم من العدوان على الشعب الفلسطيني في غزّة وأراضي ومدن وقرى الضفّة الغربية، حيث كانت الأخبار المتداولة تركّز على الأسرى الصهاينة وإطلاق الصواريخ من المقاومة، وأنها حرب بين واحة الديمقراطية الصهيونية حارسة الحضارة الغربية وبين الظلاميين المتطرفين المجرمين الإرهابيين، وأصبحت فلسطين خارج أية أخبار إعلامية، فيما سردية المحتوى الإعلامي كانت تختزل كل الدمار والقتل والفظاعات المقترفة من طرف الجيش الصهيوني بأنها حرب دفاعية، ضد حركة الشر الإرهابية، ولم تكترث تلك الجهات بأعداد الاضحايا الذين وصلت أرقامهم إلى حدود 50 ألف شهيد في غزة وحدها والآلاف في مدن وقرى الضفة، عدا عن الجرحى وعن المفقودين وعن المعتقلين وعن المختفين وعن الذين لم يتم معرفة مصيرهم. هؤلاء كلهم مجرد أرقام لا معنى لها في وسائل الإعلام الغربية. لا تستوقف حرباً يذهب ضحيتها الآلاف أدنى اهتمام بأن تحظى بخبرٍ عنها، إلا عندما ترتبط بإمكانية التأثير على الغرب خاصةً في حالة توافد المهاجرين من جرّاء الحرب، أو عندما تكون هناك موارد طبيعية يمكن أن يتعطل تزويد الغرب بها. ماذا حدث في مالي والنيجر وقبائل الباكستان ونيكاراغوا ولبنان وفنزويلا وأرمينيا وأبخازيا والعراق وسوريا، فهي تأخذ المساحة والعناية تبعاً لدرجات ومستويات المصالح المتأتية أو المتضررة مما يجري في تلك الدول.
هذا هو الإعلام بأبشع صوره وغاياته، حين يصير مجرد أدوات وأبواق ببغائية تردد ما ينسجم مع غايات وأهداف إمبريالية توسّعية استغلالية، فيقدم هذا الخبر ويؤخر ذاك، يبالغ في مجريات، ويتغافل عن مجريات.
وأي تضليل إعلامي أكبر وأكثر من الذي تمارسه وسائل الإعلام عبر التلاعب في خوارزميات الخبر، فتمنح قصةً أو حدثاً تضخيماً وتأثيراً بشكل يدعى « التريند» وباستخدام « الهاشتاج» فينتشر كالنار في الهشيم وبسرعةٍ قياسيةٍ لا مجال للوقوف أمامها أو مواجهتها بما ينقضها ويدحضها.
لقد أتاحت خوازرميات الذكاء الإصطناعي المجال لهندسة وإعادة تصنيع الخبر بما يتماشى وأهواء الصانع للخبر، فأوجدت صيغة الخبر العاجل والوسوم التي ترفع بشكلٍ مذهلٍ عدد المشاهدين والمعلقين والمشاركين، مع سرعة هائلة في الانتشار، مما يفقد أية فرصةٍ للتأمل والمراجعة وتمحيص الخبر وتدقيقه.
هي هندسة اجتماعية تعيد بناء الوعي الاجتماعي للأفراد والمجتمعات وتكوين رأي عام مخادع ومزيّف، لكنه يحظى بالحضور والتأثير السريع المباغت، وهذا يكفي لتحقيق الغايات الخبيثة للتلاعب بالعقول الفردية والجمعية.
حروب منسية، شعوب منسية، مجتمعات مغيّبة، أزمات غير معترف بها، توترات يتم إطفاؤها، هدوء يتم تحييده وإشعال مساحاته، وقائع جسام تمرّ دون ادنى التفاتة، فيما طائر يتلوث بالنفط المتسرّب من ناقلة يصبح الخبر الرئيس المتصدر.
وصدق من قال إن الحقيقة هي الضحية الأولى في الحروب، وأضيف أن الحروب عبارة عن وقائع بنسبة 10%، فيما تستحوذ الأخبار الإعلامية على نسبة 90% منها.