أقلام بوست

عثامنه يكتب : ترامب وبومبي… حين يكرر التاريخ نفسه

عمان بوست – بقلم صفوان عثامنه

لفت انتباهي الباحث الأردني المتخصص في تاريخ الأردن القديم، الدكتور يزن مقابلة، إلى مقارنة تاريخية ذكية وعميقة بين الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب والقائد الروماني غنيوس بومبيوس ماغنوس المعروف بـ”بومبي الكبير” (Gnaeus Pompeius Magnus)، أحد أشهر جنرالات الجمهورية الرومانية،القائد العسكري والسياسي البارز الذي لعب دورا مهمًا في تحول روما من جمهورية إلى إمبراطورية. وللأمانة، فإن يزن مقابلة لا يقدم رأيا عابرًا، بل يستند إلى بحث أكاديمي هو الأول من نوعه، نال من خلاله درجة الماجستير بعنوان: “مكاور من القرن الأول قبل الميلاد إلى القرن الأول الميلادي”، وقد أهداه مؤخراً إلى سيادة المطران خريستوفوروس، مشيراً فيه إلى أهمية موقع جبل مكاور (ماخيروس)، وما شهده من أحداث مفصلية في التاريخ، أبرزها إعدام يوحنا المعمدان على يد هيرودوس، في موقع تداخلت فيه الجغرافيا مع السياسة والدين.
في البداية بدت المقارنة بعيدة، لكن دفعني الفضول للبحث، فوجدت ما أدهشني، وما أقرب الأمس إلى اليوم!
في العام 63 قبل الميلاد، كان بومبي في أوج صعوده السياسي والعسكري، وقد كلّفته روما بتوسيع نفوذها في الشرق الأوسط، بعد أن أنهى بنجاح حروبه في آسيا الصغرى وأرمينيا. توجه بومبي إلى بلاد الشام بعد أن تفكك النفوذ السلوقي وبدأ الفراغ الإقليمي يغري بالتدخل. في هذا الوقت، كانت مملكة الأنباط في الجنوب، وعاصمتها البتراء، في أوج قوتها، وتسيطر على الطرق التجارية من الحجاز حتى دمشق. أما في الشمال، فقد كانت المملكة الحشمونية اليهودية تشهد صراعًا دموياً على السلطة بين الأخوين هركانوس الثاني وأرسطوبولس الثاني، وقد استنجد كل منهما ببومبي، كلٌ على طريقته.
دخل بومبي القدس بعد حصار دام ثلاثة أشهر، في مشهد يعيد إلى الأذهان تدخل القوى الكبرى في أزماتنا الداخلية. خلع أرسطوبولس، وأعاد تنصيب هركانوس بمكانة دينية لا سياسية، واضعاً اليهودية تحت وصاية روما. وفي الطريق، أرسل جيشاً بقيادة أحد قادته لضرب النفوذ النبطي، بعد أن رفضت البتراء شروطاً رومانية تتعلق بالضرائب والممرات. وعلى أطراف دمشق، قهرت القوات الرومانية النفوذ النبطي مؤقتاً، لكنها لم تُخضع البتراء بالكامل، رغم محاولات لاحقة.
بعبارة أخرى، جاء بومبي إلى المنطقة “لتأديبها” وإعادة ترتيبها وفق المصلحة الرومانية، وأعاد رسم الحدود والتحالفات بما يخدم موقع بلاده كقوة عظمى لا تهتم بمن هم الحلفاء، بقدر ما تهتم بمن يخدم المصالح!
اليوم، وبعد أكثر من ألفي عام، لا يبدو مشهد المنطقة مختلفاً كثيراً، وإن اختلفت الأدوات. جاء ترامب يحمل ما أسماه “صفقة القرن”، وادعى بأنه يريد إنهاء الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، لكنه في الواقع أعاد تشكيل المشهد الإقليمي وفق مصالح واشنطن، ومعايير القوة والهيمنة، تماماً كما فعل بومبي.
والمدهش أن بعض النخب من أصحاب الحناجر المنتفخة التهاباً، والتي كانت تملأ الفضاء صراخاً بشعارات عقدية، رافضة أي تعامل مع أميركا، ومخوّنة كل من يتعامل بالمنطق والبراغماتية، فوجئنا بهم اليوم يركضون إلى طاولة ترامب، بل ويقدّمون التنازلات مجانًا، ويتفاخرون بأنهم يحاورون صانع القرار الأميركي!
لقد أضاع هؤلاء الممكن وهم يركضون خلف المستحيل، وشيطنوا كل صوت عاقل دعا إلى التعامل الواقعي مع موازين القوى، ثم عادوا خفية وتفاوضوا على ما رفضوه في العلن.
أما أولئك الذين أرادوا جرّ الشعوب إلى صراعات عقائدية لا تنتهي، فقد بان كذبهم. فهم لم يسعوا إلى تحرير أو إصلاح، بل إلى تصدّر المشهد السياسي وإقصاء كل مخالف باسم “الطهر الثوري” و”الشرعية الإلهية”، بينما كانت أجنداتهم تصب في تعزيز نفوذهم على حساب أوطانهم.
وفي قلب هذا المشهد المتقلب، تبقى الحكمة هاشمية، فقد اختار جلالة الملك عبدالله الثاني منذ البدء طريق الحق والمنطق، والشرعية الدولية، قال لا حين سكت كثيرون، وصان الثوابت حين ارتجف آخرون. مدافعًا بثبات عن الحق الفلسطيني، رافعاً راية السلام العادل والشامل، القائم على إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، على ترابها، وعاصمتها القدس الشرقية. واليوم، وقد انكشفت الأوهام، تتبدى صوابية موقفه، وينحاز العالم لرؤيته، بعدما سقطت أقنعة المزاودين وبقي صوت العقل الأردني ثابتاً لا يهادن ولا يساوم على الثوابت. لتتجلى مكانة الأردن الأخلاقية والسياسية، ويُعاد الاعتبار لصوت طالما اعتُبر صوت الحكمة والإنذار المبكر في آن.
إن ما بدأه الدكتور يزن مقابلة من إشارة ذكية، فتح باباً عميقاً للتأمل في كيف يُعاد تمثيل التاريخ بلغة المصالح لا الشعارات. فترامب، كمن سبقه قبل ألفي عام، لم يأتِ لإنصاف أحد، بل لرعاية مصالح بلاده. والقوي، كما أثبت التاريخ، لا ينحاز إلا لمن يخدم مصالحه، لا لمن يرفع الشعارات من دون مشروع.
نعم، التاريخ يعيد نفسه… لكن الحكمة الهاشمية تعيدنا إلى المسار الصحيح، كلما حاول الزيف أن يضلّنا عن الطريق!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى