الخواجا يكتب : مآلات الثقافة والفنون والإعلام (1)

عمان بوست – بقلم د. ماجد الخواجا
وعود الرقمنة ونذر السيبرانية: لم يعد العالم نتيجة الثورة التقنية مجرد قرية صغيرة كما وصفها مارشال ماك لوهان، وإنما تحول إلى غرفة أو مبنى واضح المعالم والأبعاد كما قال المفكر الإيطالي تشارلز كولي.
كأنها مرحلة الاغتراب الرقمي، الاغتراب أمام الانتشار الكبير لتكنولوجيات وسائل الإعلام والإتصال وما تسببه من مشاكل للبنى الإجتماعية خصوصا للدول النامية التي تستشري فيها الأميّة بأنواعها وفي المقدمة منها « الأميّة الرقمية» وبمعدلات كبيرة. ثمة عوز للوعي الإلكتروني، نتيجة غياب آليات إستخدام هذه الوسائل والتكنولوجيا بطرق سليمة توظف توظيفا إيجابيا لخدمة قضايا المجتمع والمساهمة في تنميته وتطويره ، وهي مظهر من مظاهر التحدي (التكنو اجتماعي). إن إستخدام وسائط الاتصال الجديدة، حررت المستخدم ضمن فضائها من القيود (الزمكانية) التي لا تعترف بالجغرافيا ولا بالزمن، كما أسقطت القوانين التقليدية التي كانت تحكم الإعلام التقليدي وتجاوزها للإكراهات الفيزيائية المرتبطة بسياقات الحضور وطقوس المكان.
إن الإنترنت ليس مجرد صدام ساحق بين النظام الجديد المسيطر باطراد وبين تراث الشعوب الأقل قوة، ففي هذه التكنولوجيا ذاتها ما يفسح المجال للدول والشعوب كي تحافظ على تراثها وثقافاتها، لكنها تبدو وسط إمكاناتها الهشّة وتغيّر أولويات الحضور، تلهث ببطء في سبيل مجاراة فيضانات الرقمنة دون جدوى. هنا الخشية من أن تفرض الحتمية التكنولوجية نسقها ورؤاها قبل أن تستعيد القافة توازنها وخياراتها.
البيئة الإلكترونية الافتراضية خلقت بدائل وخيارات غير متوقّعة، فهي كسرت الأطر التقليدية للنسيج الإجتماعي وأعادت بنائه، حيث أضحى المستخدم تائها وسط هذه التخمة بالمعلومات والسرعة في النقل، والسهولة في التفاعل سلباً أو إيجاباً. غير قادر على التفريق بين الحقيقة كما هي، والحقيقة المنقولة أو المضامين التي تحمل قيمة مضافة بشكل من الأشكال، أدّى ذلك إلى بروز ظواهر وسلوكات تؤدّي بالمستخدم إلى العيش في واقع غير حقيقي إفتراضي، يتيح التواصل والترفيه والإعلام والتعويض، ويزداد إنتماء المستخدم لهذا الواقع الافتراضي كلّما تورّط مع الشاشة المتّصلة بشبكة الإنترنت وأدمن عليها، أو ما يعرف بظاهرة « الإغتراب» التي تعزل الفرد تدريجيا عن مجتمعه وتؤدّي إلى تصدّع في العلاقات الإجتماعية التقليدية والرتابة الروتينية، فيما تزيد في إندماجه في الواقع الإفتراضي بمختلف تفاعلاته.
الهوية الافتراضية بين الذات الأصيلة والذات الزائفة، الهوية الافتراضية وما تخلقه من وجود زائف يحيل إلى الاغتراب الذاتي في شكله الحديث الذي يتوافق ومتطلبات المجتمع الإفتراضي، واقع يتجلى بوضوح مصحوباً بتغيرات اجتماعية كثيرة شملت العلاقات بين الأفراد، قيمهم، إتجاهاتهم ومختلف الأنشطة التي غيرت من طبيعة البيئة الفيزيقية والإجتماعية للفرد. ثمة مواجهة غير منصفة بين الثقافة والفنون من ناحية وبين الإعلام من الناحية الأخرى، حيث يجاري الإعلام التطورات المتعاظمة والتحولات اللا نهائية في سبيل استحواذه على المشهد الرئيس في المجتمعات، وهذا الملاحظ عبر التكنولوجيا الرقمية التي أباحت المحرمات بمختلف اطيافها، الدينية والأخلاقية والاجتماعية والذاتية، وأعلت من شأن الرداءة والتفاهة، حتى أصبح شعار المرحلة، أن الأكثر تفاهة هو الأعلى شهرةً، والأكثر رداءة وتحللاً أخلاقياً هو الأكثر عائداً وترويجاً، هنا تبدو سطوة وهيمنة الحضور الإعلامي على ما تتسم به الثقافة من خصوصية منتهكة تسعى للحفاظ على شيءٍ من التراث اللامادي للشعوب، لكنها تواجه طوفاناً سيبرانياً لا مجال لمجاراته ولا مجال لتفاديه، فذابت أو تكاد الثقافة في محلول العولمة غير المؤنسنة ذات السمات الروبوتية المؤتمتة التي لا همّ لها ولا أولوية إلا ما يعود على أصحابها من عوائد مجزية بصرف النظر عن أية أبعاد قيمية موزونة. لقد ساد طغيان الإعلام الرقمي على سائر المناشط المجتمعية وفي مقدمتها الفنون والآداب والثقافة بمعناها النظري والعملي. كأن الحتمية التكنولوجية تعلن انتصارها الأخير على المفاهيم التقليدية للثقافة والآداب والإعلام التقليدي. يتبع