الخواجا يكتب : عودة خدمة الوطن

عمان بوست – بقلم د. ماجد الخواجا
أعلم تماماً حجم الكلف المترتبة على إعادة خدمة العلم التي تقدر بمئات الملايين من الدنانير، وهي في حساب العوائد المباشرة قد لا تظهر بشكل واضح، لكنها في حسابات الوطن بعيدة المدى لها بالغ الأثر من حيث إكساب الشباب مهارات واتجاهات ومعارف قد لا تتيحها لهم أية مجالات حياتية أخرى.
لقد دار الحديث منذ سنوات طويلة في البحث عن آليات عودة خدمة العلم، وجاءت المقترحات التي أيدت العودة مع تقصير المدة، واقتراحات بربط الخدمة بالتدريب على مهن وحرف مطلوبة في سوق العمل، ومنها ما طرح نوعاً من التدريب العسكري الأساسي وتمضية وقت الخدمة المتبقي في شؤون مدنية حسب الاختصاص للمكلف.
أذكر في عهد احدى الحكومات السابقة تمت إعادة الخدمة، ووجدت نفسي وسط ميدان في منطقة « شويعر» لأعطي محاضرات للمكلفين، في الطريق توجهت لمرافقي العسكري بسؤال عن وجود قاعة محاضرات مكيّفة وتجهيزات مثل الداتا شو واللوح والأقلام والأوراق وغيرها. نظر إليّ وهو يبتسم قائلاً: كل شيءٍ متوفر وينتظرك. لا عليك حتى الميكروفون موجود. قلت له : كم عدد الذين سألقي عليهم محاضرتي؟ أجاب: ليسوا كثيراً، لكن الواحد منهم بألف. إذاً هناك إمكانية لتقديم عرض تقديمي « باور بوينت» الذي قمت تحضيره ليلة ما قبل شويعر. دارت في مخيّلتي أفكار عن أجيالٍ لم تعرف نوعاً من الضبط الصارم في الحياة، ولم تمر على تفاصيل عسكرية بقيم وطنية. تذكرت جملةً بدأت تشيع آنذاك وهي « الخصر الساحل» كنايةً عن انتشار ارتداء بناطيل ذات خصر ساحل تكاد لا تحفظ شيئاً من سوأة الشباب الذين يرتدونها.
حين وصلنا إلى شويعر، وجدت نفسي في ساحةٍ مسفلتةٍ ممتدة ممتلئة عن بكرة أبيها باللون الأخضر « لون بدلة العمل العسكرية للمكلفين» الذين تواجدوا في ساحة واسعة وعديدهم تجاوز الألف وخمسمائة مكلف، الحقيقة كان الموقف من المهابة أنني شعرت برهبةٍ وخشية من عدم الحضور الكافي لي، كانت الشمس تهيمن على الحالة وتنفث لهيبها الذي يظهر على جباه الواقفين في الميدان وحجم العرق الطافح من الجلود. شرعت الحديث بجملة « مرحبا مكلفين» فردد أرجاءالميدان صدى صوت 1500 مكلف معاً، «مرحباً بك أستاذ»، حينها انهارت كل سواتر الحذر وظهرت عفوية حقيقية جعلت الحديث ينساب كالماء الزلال. تماهت الكلمات بالنظرات والمشاعر المتدفقة وسط حماسةٍ، كنت أتوقع الحاجة إلى مكبرات صوت، لكن اكتفيت بصوتي المعتاد الذي وصل الجميع نتيجة التزامهم بآداب الإنصات والإستماع والإنضباط.
ربما كانت تلك المحاضرة من أروع وأسهل المحاضرات التي قدمتها في حياتي، حيث لا حاجة لمكبرات الصوت أو استخدام التنبيه بالتزام الصمت، كان صوتي العادي كافياً ليصل إلى أبعد مكلفٍ جالسٍ في الميدان. كان الوقت الممنوح لي 30 دقيقة، لكن مع تلك الوجوه التي ضربتها سمرة من وراء أشعة الشمس، وحضور مكتمل الرجولة والكرامة. لتمتد المحاضرة لأكثر من ساعة.
في طريق العودة، كنت مفعماً بمشاعر المحبة والإنسانية الممزوجة بالفخر. تذكرت الباوربوينت، مددت يدي إلى جيبي وأخرجت شيئاً منها، فتحت نافذة السيارة وألقيت بالفلاشة خارجها.
شاهدتهم وهم جالسون على الأرض لا تمايز بينهم إلا بدرجات اللون الأسمر على الجباه والوجوه مع شمس شويعر، هناك لا فروق في الممارسات والملابس والواجبات والحقوق، والطعام والرفاه. تفاصيل يومية تنطبق على الجميع ولهم، اللون الأخضر للفوتيك والأسود للبسطار، الرؤوس المكللة بالبوريهات، كأنها لوحة غاية في الانسجام.لوحة مرسومة بيد فنانٍ يعشق الحياة والفرح.
ما أود قوله: إن عودة خدمة الوطن رغم كلفتها المادية الباهظة، فهي تستحق التضحية من أجل بناء أجيال تعرف كيف ترفع هاماتها، كيف تبني حياتها، كيف تذود عن وطنها.