التقسيمات التي صنعت آسيا: قراءة في كتاب Shattered Lands والوضع الراهن

بقلم: د. حنان محمود عبد الرحيم
باحثة في تاريخ آسيا الحديث والمعاصر
من يتأمل المشهد السياسي الراهن في آسيا والشرق الأوسط، يجد نفسه أمام خارطة مليئة بالتوترات المزمنة: نزاعات حدودية لم تُحسم، أزمات هوياتية متصاعدة، وصراعات مسلّحة تُهدّد وحدة الدول. هذه الصورة ليست وليدة اللحظة، بل هي امتداد لمسار تاريخي طويل من “التقسيمات” التي أعادت رسم الجغرافيا السياسية في المنطقة منذ منتصف القرن العشرين.
كتاب Shattered Lands للمؤرخ سام دالمبلي يقدّم قراءة معمّقة لخمس تقسيمات كبرى شكّلت جوهر آسيا الحديثة: تقسيم الهند (1947)، فلسطين (1948)، كوريا (1953)، قبرص (1974)، وبنغلادش (1971). هذه الأحداث لم تترك حدودًا جديدة فحسب، بل خلّفت جروحًا مفتوحة ما زالت تصنع حاضرنا حتى اليوم.
جروح الماضي في جسد الحاضر
الهند وباكستان: أزمة كشمير المستمرة منذ أكثر من سبعة عقود هي الابن الشرعي للتقسيم البريطاني عام 1947، وهي اليوم أكثر تعقيدًا مع دخول الصين طرفًا فاعلًا في النزاع عبر مشاريعها الاستراتيجية.
فلسطين: المشهد المأساوي في غزة اليوم هو استمرار مباشر لقرار التقسيم عام 1948؛ حيث الإقصاء والتهجير والاحتلال، وما يرافق ذلك من عجز المجتمع الدولي عن فرض تسوية عادلة.
بنغلادش: تجربة الانفصال عن باكستان عام 1971 تبرز سؤال الهوية بين القومية والدين، وهو سؤال يتكرر اليوم في أزمات الأقليات العرقية والإثنية من بلوشستان حتى الروهينغا في ميانمار.
آسيا بين التقسيمات القديمة والتشظيات الجديدة
إذا كان القرن العشرون قد عُرف بـ”تقسيمات الاستعمار”، فإن القرن الحادي والعشرين يشهد تشظيات داخلية جديدة، أبرزها:
اليمن: صراع داخلي معقّد بين الشمال والجنوب يهدّد بإعادة إنتاج سيناريو التقسيم.
السودان: الحرب الأهلية الراهنة تكشف أن انفصال الجنوب عام 2011 لم يكن نهاية المسار، بل بداية لتشظيات جديدة.
سوريا وليبيا: هشاشة الدولة الوطنية أمام التدخلات الخارجية تجعلها عرضة لمشاريع تقسيم ناعمة.
القوى الإقليمية: إيران، تركيا، الهند، والصين تعمل على إعادة ترسيم المجال الجيوسياسي، في صورة تعيد للأذهان صراع القوى الاستعمارية في القرن العشرين.
رأيي كباحثة في تاريخ آسيا الحديث والمعاصر
من خلال قراءتي المتخصصة، أرى أن أطروحة دالمبلي في Shattered Lands تكتسب قيمة مضاعفة اليوم، لأننا نعيش مرحلة يمكن وصفها بـ”التقسيمات الثانية”. فبعد أن فرض الاستعمار حدوده السياسية بالقوة، نشهد اليوم انهيارًا داخليًا للبنى الوطنية نتيجة غياب العدالة الاجتماعية وضعف مؤسسات الدولة.
إن مأساة غزة، وأزمات اليمن والسودان، ليست سوى دليل على أن منطق “التقسيم” ما زال حيًا، لكنه اتخذ أشكالًا جديدة: حروب أهلية، نزعات انفصالية، وصراعات هوية. من هنا، فإن قراءة الكتاب من زاوية تاريخية معاصرة تكشف أن الماضي لم ينتهِ، بل يعيد إنتاج نفسه في الحاضر، بأدوات أكثر تعقيدًا وخطورة.
خاتمة
إنني كباحثة في تاريخ آسيا الحديث والمعاصر أرى أن أي محاولة لصناعة مستقبل أكثر استقرارًا يجب أن تبدأ من الاعتراف بالإرث التاريخي للتقسيمات، لأن الجروح المفتوحة لا تندمل بالتجاهل، بل بالحوار، والمصالحة، وبناء عقد اجتماعي جديد يعيد الثقة بين الدولة ومواطنيها. وهذه هي الرسالة الأهم التي يتركها لنا كتاب Shattered Lands ونحن نقرأه في لحظة تتجدد فيها أزمات المنطقة من غزة إلى اليمن والسودان.