بين خلية الإرهاب وخطاب المزاودة: الأردن يحسم معركة الوعي

عمان بوست – بقلم م. صفوان عثامنة
من جديد، يسجّل الأردن نصرًا أمنيًا يضاف إلى رصيده في حماية استقراره الداخلي، إذ أعلنت دائرة المخابرات العامة، فرسان الحق، عن كشف خلية إرهابية كانت تستهدف أمن الوطن وتسعى لجرّه إلى الفوضى عبر تبني أفكار متطرفة. لم يكن هذا الإنجاز الأمني مجرد إحباط لمخطط خطير، بل هو انتصار آخر في معركة أعمق تخوضها الدولة الأردنية: معركة الوعي، التي لا تقل أهمية عن المعركة الأمنية، بل تتجاوزها حين تتعلق بثقة الناس بمؤسساتهم ووجدانهم الجمعي.
وفي الوقت الذي تسهر فيه الأجهزة الأمنية على صون الجبهة الداخلية، تطل علينا بعض الأصوات المتحذلقة بمحاولات مزايدة خطابية، تتستر خلف شعارات دينية أو قومية، بينما تفتقر إلى الحد الأدنى من الموضوعية والاتساق. هذا النوع من الخطاب لم يعد مجرد اختلاف في الرأي، بل تحول إلى أداة لزعزعة الاستقرار، وتشويش الوعي، وتحويل أي خلاف سياسي إلى صراع عقدي مفتعل. وهنا يصبح من المشروع أن نتساءل: من يملك الحق في الحديث باسم الدين أو الوطن؟ وهل يجوز لأي طرف، مهما كانت مرجعيته، أن يحتكر تمثيل فلسطين، أو يدّعي أنه وحده الناطق باسم الشريعة؟
الحركة الإسلامية، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، أمضت عقودًا في العمل السياسي والدعوي دون أن تضع تصورًا فقهيًا واضحًا كمرجعية شرعية يمكن محاكمتها عليها، أو تقدم مشروعًا وطنيًا متماسكًا. لقد بنت خطابها على التناقضات والازدواجية؛ فتارة تتبنّى فتاوى الشيخ يوسف القرضاوي في جواز الخروج على الحاكم، وتخالفه في إجازة الموسيقى ورفض حدّ الرجم، وتارة تهلل لأقوال سلفيين مثل عثمان الخميس الذي يُحرّم الموسيقى، ثم تستهجن فتاواه ضد حماس ووجوب طاعة ولاة الأمر!
التناقض لا يقتصر على الشأن الفقهي، بل يطال المواقف السياسية كذلك. فقد هاجموا اتفاقية السلام في الأردن، لكنهم سكتوا عن رسالة “الصديق العظيم” التي وجهها محمد مرسي لإسرائيل، وصمتوا أمام تطبيع أردوغان، بل واحتفوا به. يرفضون التطبيع في عمّان، ويصفقون له في أنقرة، لأن المعيار ليس العقيدة، بل مصلحة التنظيم الدولي للإخوان، الذي يُغلب الولاء الحزبي على أي مبدأ آخر.
أما في ما يتعلق بالديمقراطية، فقد بلغت الازدواجية ذروتها؛ حين قاطعوا الانتخابات النيابية بعد قانون الصوت الواحد، أفتى بعض خطبائهم من فوق المنابر بأن التصويت حرام، مستندين إلى أن الديمقراطية “نظام كفر” لأنها تمنح الحكم للشعب، بينما “إن الحكم إلا لله”. ولكن حين قرروا لاحقًا خوض الانتخابات، أصبحت المشاركة “واجبًا شرعيًا”، ومن يمتنع عنها “آثم قلبه”، وفق آية قرآنية عن كتمان الشهادة!
إن هذا الخطاب المزدوج، الذي يتأرجح بين نخبوي موجه للدولة وشعبوي يعبّئ الشارع، لا يُنتج وعيًا دينيًا أصيلًا ولا مشروعًا وطنيًا ناضجًا، بل يؤدي إلى تشويش عام، يُحوّل التديّن الشعبي إلى وقود للغوغاء، والديمقراطية إلى وسيلة لـ”التمكين” لا للمشاركة. ومع كل أزمة أو استحقاق، يتكرر ذات النمط: مزايدات تحت قبة البرلمان، وشعارات فضفاضة عن “تطبيق الشريعة”، دون أي توضيح: أي شريعة يقصدون؟ شريعة القرضاوي، أم فتاوى الخميس؟ ولا كيف تُطبّق في دولة مدنية تسعى إلى العدالة والمساواة!
الأخطر من ذلك، أن بعض هذه الخطابات المحرّضة على الدولة ومؤسساتها تصدر من منابر دينية يُفترض أن تكون بيوت عبادة، لا منصات للتعبئة السياسية. ومع أن الدولة الأردنية مارست أقصى درجات ضبط النفس تجاه هذا التوظيف السياسي للدين، فإن اللحظة تقتضي وقفة حازمة، لأن الصمت عن خطاب مزدوج يُحرّض على الدولة ويختطف وعي الناس، لم يعد خيارًا، لا سيما حين يتحول إلى تهديد فعلي كما كشفت الخلية الإرهابية الأخيرة.
ما جرى لا يجب أن يُقرأ أمنيًا فقط، بل فكريًا وسياسيًا، لأن العبث بالوعي هو التربة الخصبة التي تنبت فيها مثل هذه الخلايا، وتحويل الخلاف السياسي إلى صراع عقائدي. فحماية الوطن لا تكون فقط بصدّ الرصاصة، بل بتفكيك الكلمة قبل أن تتحول إلى سلاح. ولعل الرسالة التي وجهتها دائرة المخابرات العامة اليوم، ليست فقط في كشف الخلية، بل في ترسيخ معادلة الأمن الوطني المتكامل، الذي يبدأ من الثقة المتبادلة بين الدولة وشعبها، ومن الوضوح في الموقف والخطاب.
في هذا السياق، لا مكان للازدواجية، ولا مجال للمزاودة. نحن مع فلسطين، نعم، ولكننا أولًا مع الأردن. نحن نؤمن بالشريعة، ولكننا نرفض تشويهها وتسييسها. نحن نحترم حرية التعبير، ولكننا نرفض التحريض وتأليب الناس. وفي وطن يقوده الملك عبد الله الثاني بحكمة، وتلتف فيه الأغلبية الشعبية حول راية الدولة، فإن كل محاولات الاختراق ستسقط، تمامًا كما سقطت خلية اليوم… في قبضة المخابرات.